سواء جاء الحاكم عن طريق انتخابات حرة وشفافة ونزيهة، أو فُرض على الشعب جبراً وقسراً، فهو فى الأولى نتاج صحيح لاختيار الشعب، وفى الثانية نتاج صحيح أيضاً لكن لرضوخ الشعب وغفلته وعدم حرصه على السعى بإصرار ومثابرة ودأب لنيل حقوقه وحريته، لهذا قيل: «إن الشعب يأتيه الحاكم الذى يستحقه»، وقيل أيضاً: «كيفما تكونوا يولى عليكم»، هذان المثالان يعبران بحق عن الواقع الذى يعيشه أى شعب، وعادة ما يختزل الحكام المستبدون الدولة فى أنفسهم، ومن ثم فأى نقد لهم هو نقد للدولة ذاتها، وما يقال فى حق «الحاكم الدولة»، يقال أيضاً فى حق «الرئيس الحزب»، و«المرشد الجماعة»، مع فروق تمليها ظروف كل منهم، فى حالة «الحاكم الدولة»، يتولد لديه الإحساس بذلك عبر الطاعة المطلقة والولاء الكامل له من مؤسسات الدولة، خاصة الجيش والشرطة، حيث يستطيع من خلالهما أن يبسط سلطته وهيمنته على الجميع، وهى سلطة تفرضها قوة القانون أو قانون القوة، فى حالة «المرشد الجماعة»، الوضع مختلف، إذ يتكون الشعور لديه من خلال ثقافة السمع والطاعة والثقة فى القيادة التى يدين بها جميع أفرادها له، وهى -فى الأساس- سلطة روحية يعتبرها الأفراد نوعاً من العبادة يتقربون بها إلى الله، «الحاكم الدولة» لا يرى إلا ذاته، ولا يعير أفكار غيره التفاتاً، فالرأى الصواب هو ما يراه صواباً، تماماً كما قال فرعون يوماً: «ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» (غافر: ٢٩)، كذلك، «المرشد الجماعة»، رأيه هو الصواب، هو الأستاذ والباقى تلاميذه، هو الوالد والشيخ والجميع أولاده ومريدوه، هو فوق الجميع والمرجع الأخير، وقد يعمد «المرشد الجماعة إلى انتقاد الحكام بقسوة وعنف، غير منشغل أو مهتم بما يمكن أن يتعرض له الأتباع من امتحان» أو ابتلاء، لا ينظر إليهم ليرى إن كانوا -هم أو بعضهم- قادرين على تحمله أم لا، هو لا يرى إلا نفسه، قد يحمل قلب رجل شجاع وأنه قادر على تحمل الصعاب، لكن المفترض فى القيادة -أى قيادة- أن تضع اعتباراً للأتباع ومدى قدراتهم، جاء فى الحديث: «الضعيف أمير الركب»، والمعنى أن قيادة أى جماعة لا بد أن تتفرس جيداً فى أحوال أفراد الصف، وهل هم على مستوى واحد من القوة والقدرة والطاقة، أم فيهم تفاوت وتباين، وهل فيهم من هو صاحب مرض، أو ضعف فى القدرة، وهكذا؟ بناء على ذلك تحدد الجماعة سيرها تبعاً لهذه الحالة أو تلك، فى أحد الأيام من عام ١٩٨٥، كنت على موعد مع الأستاذ عمر التلمسانى (رحمه الله)، المرشد العام للإخوان فى بيته، كان معروفاً عن الرجل أدبه، وعفة لسانه، إلى جانب علمه وفقهه، فضلاً عن عقله وحكمته وبعد نظره وثاقب فكره، كان يتحدث فى الهاتف، ومن طريقة حديثه والألفاظ والعبارات التى كان يستخدمها، وقر فى نفسى أنه يتكلم مع شخصية مهمة لها حيثياتها ومكانتها، ولما فرغ من مكالمته، نظر إلىَّ مرحباً وقد أدرك ما يعتمل فى نفسى، فابتدرنى قائلاً: لعلك كنت تتساءل بينك وبين نفسك مع من كنت أتحدث؟ قلت (مبتسماً): هذا صحيح، إن لم يكن لديك مانع، قال: هذا «فلان» من جهاز مباحث أمن الدولة، وكما تعلم له موقعه المتقدم داخل الجهاز، لقد اتصل بى يريدنى أن آمر الإخوان بالتهدئة فى هذه الفترة، قلت (منفعلاً): عجباً له، أولم يكفهم الذين اعتقلوهم من إخواننا، دون ذنب أو جريرة؟! ثم استطردت قائلاً: كنت أتوقع أن يتصل بك ليبشرك بخبر الإفراج عنهم وإخلاء سبيلهم، قال: حرصت على ألا أشتد معه فى الحديث، فيضيّق على إخوانك فى السجون، فى الوقت ذاته أردت ألا يفهم منى أنى مستاء من سلوك الجهاز، فيشعر أنه حقق أغراضه، وقد ذكر إبراهيم شرف (رحمه الله)، السكرتير الخاص للأستاذ عمر، أنه كان يتحدث معه فى شأن المعتقلين من الإخوان وما يجب فى حقهم، توقف الأستاذ عمر، وقال له: اسمع يا أخ إبراهيم، هذا القلب -وأشار إلى قلبه- هو قلب أسد، لكنه الآن أصبح قلب «قط»، هل تعلم لماذا؟ أنا أتذكر الأرامل والثكالى والزوجات والبنات، فيخفق قلبى، أنا أحمل هماً كبيراً، أنا أخشى أن أتصرف فى موقف بشدة، فيرتد سلباً على الجميع.
فى اعتصام رابعة، وقفت قيادات الإخوان والجماعة الإسلامية والسلفيين على المنصة المعدة ترغى وتزبد، تهدد وتتوعد، أمامهم الألوف من الأتباع، إخوان، جماعة إسلامية، حازمون، سلفيون، سلفية جهادية.. إلخ، وكلما نظروا ورأوا الحشود تزداد حجماً والهتافات تتصاعد إلى عنان السماء، ازداد غرورهم وإصرارهم وتهديدهم، ومن العجيب أنه عندما وصلهم خبر أن بوارج حربية أمريكية على مقربة من شواطئ الإسكندرية، علت أصواتهم بالتهليل والتكبير، ومن الغريب أيضاً ادعاء بعضهم أنهم رأوا رؤى منامية تحكى نزول جبريل (عليه السلام) عليهم وهم فى اعتصام رابعة (!)، ورؤى أخرى تقول إن محمد مرسى رُئى فى منام أحدهم وقد وقفت على كتفيه ثمانى حمامات، وأولوها على أنها المدة التى سوف يمكثها الدكتور مرسى فى الحكم(!)
حرصنا وحرص كل إنسان غيور على الإسلام، والوطن، والشباب، والإنسانية ألا تراق قطرة دم واحدة، نصحنا كثيراً بأن على المعتصمين أن يفضوا الاعتصام وأن يعودوا إلى ديارهم سالمين، لكن للأسف، «قد أسمعت إذ ناديت حياً.. ولكن لا حياة لمن تنادى»، جاء الدكتور محمد بديع ووقف -كغيره- على المنصة ليخطب فى الحشود الموجودة، كنت أود أن يكون الرجل أكثرهم عقلاً وحكمة واتزاناً، ومحافظة على حياة المعتصمين، وأن يأخذ من سيرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ووصاياه ما يدرأ الفتنة، فقد جاء عن النبى قوله: «لا يذل الرجل منكم نفسه.. قالوا: وكيف يذل الرجل منا نفسه يا رسول الله؟ قال: يعرض نفسه للبلاء ما لا يطيق»، أو كما قال.. لقد قلنا وقال الآخرون، إنه لا يمكن أن تنتصر جماعة -أياً كان وزنها وحجمها- على جيش مصر وشرطتها، كنت أتمنى أن يأخذ من سيرة الأستاذ عمر التلمسانى (رحمه الله) دروساً وعظات وعبراً فى التعامل مع الدولة ومؤسساتها، لكن هيهات، هذه قيادة وتلك قيادة أخرى، قيادة لها فقهها ووعيها، وشجاعتها وإصرارها على ما تعتقد أنه الصواب، علاوة على قدرتها الفائقة على السباحة ضد التيار، وقيادة أخرى، تفتقر إلى الفقه الصحيح والوعى السديد، وليس لديها الشجاعة الكافية لكى تأخذ الموقف المناسب ولو خالفت فيه تلك الحشود التى امتلأ بها الميدان.