مصر ومعظم العالم العربى يعانى من انهيارات أخلاقية وقيمية واجتماعية وإنسانية، تلمس ذلك فى الشارع، والبرلمان، والتعاملات المالية والاجتماعية، والفن والإعلام وبين قطاعات كثيرة تمتد من قاع المجتمع إلى أعلاه اجتماعياً واقتصادياً، وتراه فى الشتائم والبذاءات التى تسمعها فى معظم البيئات الشعبية وغيرها، مع معدلات كبيرة فى الكراهية وغياب الحب والود والدفء بين الناس، فضلاً عن نسب غير مسبوقة للطلاق والخصام والشقاق الأسرى.
وأحسب أن التصوف العلمى الصحيح يمكن أن يلعب دوراً كبيراً فى علاج آفات المجتمع المصرى والعربى، خصوصاً فى ظل غياب شبه تام للحركة الإسلامية عن الساحة، نتيجة صراعها المحتدم مع الحكومة، ودخولهما معاً فى معركة تكسير عظام، والذى لا أمل لوقفه أو حله فى القريب العاجل.
والصوفية التى أقصدها ليست صوفية التكاسل وعدم العمل وقلة العلم، أو صوفية الخرافات والبدع والانتقال من مولد إلى مولد ليس فيه سوى الرقص والغناء والتطوّح يساراً ويميناً.
لكن الصوفية التى ستحل مشكلات بلادنا التى غمرتها الدماء وغطتها الأحقاد وملأتها الصراعات السياسية والمذهبية والعرقية هى صوفية «الجنيد» و«إبراهيم بن أدهم» و«الحارث المحاسبى» و«أبوحامد الغزالى» و«بشر الحافى» و«إبراهيم الخواص» و«ذى النون المصرى» و«رابعة العدوية» و«أحمد الدردير»، وغيرهم.
صوفية الزهد والورع، العلم والعمل، العبادة وقيام الليل، الخلق الكريم والأدب الراقى، الزهد فى ما عند الناس، حتى لو كانوا ملوكاً، الزهد فى كراسى السلطة، صوفية العابد الزاهد الذى يطلبه الحاكم ورجل الأعمال، فيهرب منهما، وليس صوفية الذى يجرى خلف السلطان لا القرآن، ووراء المال لا الصالحين والأتقياء، صوفية لها هيبة ووقار وزينة وبهاء وصدع بالحق مع رحمة للخلق، وفيها عبادة لله وتعمير للكون.
التصوف الذى سيحل أزماتنا هو «تصوف الإحسان إلى الخلق».. والإحسان فوق العدل، ولا ينزع إليه إلا من سمت نفسه عن الأحقاد والكراهية ودعوات الانتقام والثأر، أو الدوران حول السلطة والذات والمال والجاه..
ومن لوازم التصوف الحقيقى أن تعدل مع الناس، وإن لم يعدلوا معك.. وأن تعفو عمن ظلمك، وتعطى من حرمك، وتصل من قطعك، وأن تعاملهم معاملة الأب لأبنائه، والأم الرفيقة بأولادها، حتى إن عصوها.
التصوف الحقيقى راية السلام والحب المنطلقة من القلوب الصافية الزاهدة التى تُلزم صاحبها بحب الناس جميعاً، بعيداً عن معتقداتهم وألوانهم وأعراقهم، ترجو لهم الخير، فصاحب هذا القلب المحب يكره الكفر والفسق والظلم، لكن لا يكره الإنسان الذى يحمل هذه الآفات، لأنه كمريض يحتاج إلى الطبيب ودوائه، فهل يكره الطبيب مريضه، أو يريد موته، أم أنه يحبه ويحب شفاءه، ولو كره الرسول «صلى الله عليه وسلم» عمر بن الخطاب أو خالد بن الوليد أو عكرمة أو عمرو بن العاص، حينما كانوا خصوماً للإسلام ما دعاهم وما رغبهم وما سعى إليهم وما استطاع كسبهم.
نريد صوفية الذين يكرمون ضيوفهم، لا الذين يأكلون على كل الموائد، وصوفية الذين ينفقون على طلبة العلم، لا الذين ينتظرون أن ينفق عليهم تلاميذهم، صوفية العطاء لا الأخذ، الإيثار لا الأثرة، الدوران حول الشريعة، لا الدوران حول الدنيا والدينار والدرهم، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ومعالجة الآفات التى لحقت بطريق المتصوفة العظام، وليس صوفية الرضا عن الوضع المزرى الذى نراه فى بعض الموالد الآن، فوالله لو قام الحسين من قبره ما رضى عن كثير مما يحدث فى مسجده، وما حوله من فوضى ومنكرات.
نريد تصوف عبدالحليم محمود، الذى أسلم أستاذه المستشرق الفرنسى على يديه، وإسماعيل صادق العدوى الذى كانت كلماته تهز القلوب والأفئدة، ومحمد الطيب (والد شيخ الأزهر الحالى)، الذى كانوا يطلقون عليه «جنيد القرن العشرين»، صوفية البذل والجهاد ضد المستعمرين، وليس ضد أبناء الوطن مثل: «المهدى» فى السودان، و«عمر المختار» فى ليبيا، و«عبدالقادر الجزائرى»، و«الخطابى» فى المغرب العربى، و«النقشبندى» الذى هز القلب بمدائحه النبوية، و«محمد زكى» صاحب العشيرة، و«أبوهاشم» لحاجات الناس، و«حسن عباس زكى» رمز العلم والعطاء، و«الشعراوى» فى علمه وكرمه وزهده، و«أحمد بهجت» آخر متصوف فى الصحافة المصرية.
نريد تصوف الأسر الصوفية العريقة التى تطعم الطعام وتقرى الضيف، وتؤوى الغريب، وتصلح بين الناس وتتحمل الغرامات إن لم تجد من يتحمّلها، وتكرم كرام الناس، وتعلم الجاهل، وتعالج المريض، وتصنع المعروف، وتواسى الناس، وتعود المرضى، وتحب الناس، وتسع الخلق، وتُحبّب الخلق فى الرب سبحانه.
لقد نجح الصوفية فى الحفاظ على الإسلام فى أفريقيا وآسيا، لأنهم قاوموا الاستعمار الأجنبى، ولم يصطدموا بالحكام المحليين فى الوقت نفسه.
لقد غابت الحركة الإسلامية عن الساحة، وماتت دعوة الأوقاف، فكيف تنصلح أخلاق الناس، ومن يُبلغهم رسالة السماء، ومن يُحبّب الحق سبحانه إلى الخلق، ومن يُضمد جراحات الناس وما أكثرها.. ليس هناك من يُمثل هذه الرسالة سوى الصوفية التى ذكرت خصالها والجمعية الشرعية بشقيها الدعوى والاجتماعى.. فهل ينهض الفريقان بمثل هذه المسئولية.. أم سيزداد المجتمع تفسّخاً وانهياراً. فهل يكون التصوف الصحيح هو الحل.. أم ماذا؟