هذه هى الحلقة الثالثة التى نلقى من خلالها الضوء على شخصية الأستاذ محمد مهدى عاكف، المرشد العام السابع للإخوان.. وسوف نرى مدى الخطأ الكبير الذى ارتكبه مكتب إرشاد الجماعة، باختياره الرجل لهذا المنصب.. للأسف، لم تكن هناك معايير للاختيار على الإطلاق، وإذا كانت هذه مطلوبة فى حق القيادات الدنيا، فهى من باب أولى ضرورة لازمة فى حق القيادات العليا، خاصة أعلى منصب داخل الجماعة.. والحقيقة أن «عاكف» نفسه لم يتوقع -ولو للحظة- أن يقع عليه الاختيار، لدرجة أنه اقترح على أعضاء المكتب استبعاده من الترشح، إلا أنهم رفضوا.. وعندما علم الرجل باختياره أصابته دهشة وذهول، وقال وقد اغرورقت عيناه بالدموع: أنا.. أنا لا أصلح.. حتى الأعضاء أنفسهم كانوا يضربون كفاً بكف، غير مصدقين(!).
كان من أهم المعالم التى تميز شخصية الرجل، تلك التصريحات غير المسئولة والمنفلتة، التى تسببت لنا فى مشكلات كثيرة.. تارة حول رئيس الدولة، وثانية حول زوجته، وثالثة حول ابنه.. وكنا دائماً ما نلفت انتباهه لمثل هذه التجاوزات، إلا أنه كان يرفض ذلك ويصر على ترديدها وعدم الرجوع عنها، بل يصف من ينتقدها بالخوف(!).. أتذكر جيداً فى أحد أيام محرقة غزة (١٧ ديسمبر ٢٠٠٨ - ٢٢ يناير ٢٠٠٩)، وكنت عائداً إلى المنزل عقب صلاة العصر، أن اتصل بى هاتفياً اللواء محمد حنفى (مسئول ضابط مباحث أمن الدولة عن الإخوان) وأخبرنى أنه يريد رؤيتى والدكتور محمود عزت حالاً.. حاولت التملص من الذهاب فى هذا التوقيت، وأن يتم تأجيله لوقت آخر، على الأقل إلى الليل، فقد كنت متعباً وفى أمس الحاجة إلى الراحة والنوم ولو ساعة.. أصر الرجل على ضرورة الذهاب، فالأمر لا يحتمل التأجيل إلى الليل.. اتصلت بالدكتور عزت وأحطته علماً بالأمر، والتقينا فعلاً، وذهبنا معاً إلى مقر مباحث أمن الدولة بمدينة نصر.. استقبلنا اللواءان طارق الركايبى ومحمد حنفى، وانتقلنا نحن الأربعة إلى مكتب اللواء الراحل أحمد رأفت الذى كان يشغل آنذاك نائب رئيس الجهاز.. كنت أتصور أن اللقاء سوف يدور حول التظاهرات التى يقوم بها الإخوان فى تلك الأيام بسبب المجزرة البشرية التى ارتكبها العدو الصهيونى فى حق أهلنا فى قطاع غزة.. لكن الحقيقة كانت غير ذلك..
بدأت الحديث بالسؤال عن سبب اللقاء وهذه العجلة، فقال اللواء أحمد رأفت: إن الأستاذ عاكف أدلى بتصريح لصحيفة «الأمة» التى تصدر غداً صباحاً، وصف فيه الرئيس مبارك بأنه «مخبول»، لأن الأخير أدلى بتصريحات رآها «عاكف» تضر بأهل قطاع غزة فى ذلك التوقيت.. قلت: ربما كان العنوان فقط، فأنت تعلم أن الصحيفة هى المسئولة عن العناوين، وعادة ما تكون مثيرة لاجتذاب القراء.. قال اللواء رأفت: بل هى مأخوذة من النص الذى أدلى به الأستاذ عاكف.. ثم أردف قائلاً: أنت تعلم أن الأستاذ عاكف يمكن أن يقول ذلك، وهذا التصريح له تبعاته علينا وعليكم.. ثم قال: ولو أنه اتهم مبارك بأنه ينفذ أجندة الصهاينة لكان أهون(!) كانت الصحيفة فى المطبعة فى ذلك الوقت، وأراد اللواء رأفت أن نتصل من غرفة مجاورة بالأستاذ عاكف لنطلب منه الاتصال بالصحيفة لحذف التصريح.. التفت إلى الدكتور «عزت» وقال: كنت حريصاً على وجودك معنا، حتى تقنع الأستاذ «عاكف» بالرجوع عن هذا التصريح، فأنا أعلم مدى تأثيرك عليه (هكذا).. لكن، لنا لقاء بعد ذلك معك.. قلت (مقاطعاً): ولماذا لا توقفون طبع هذا العدد؟ قال: لا نستطيع.. فهذا الأمر يسبب لنا مشكلة.. قلت: لا بد من الذهاب إليه فى البيت لمعرفة الأمر برمته، وسوف نتصل بكم لإبلاغكم بما انتهينا إليه.. قال: لا بأس..
خرجنا من مبنى مباحث أمن الدولة واتجهنا لمنزل الأستاذ عاكف بالتجمع الخامس.. كان الرجل نائماً، فقلت لزوجته: أيقظيه.. عندما جلسنا، أبلغته بالقصة، وسألته: هل صدر منك هذا التصريح؟ قال (وهو يفرك عينيه): مش فاكر. قلت: اعمل معروف.. حاول تفتكر.. أنت تعلم أن هذا التصريح سيدخلنا فى معركة أخرى.. رد قائلاً: وافرض قلته.. وإيه يعنى؟ قلت: لا ليس هذا أوانه.. المهم أنه وافق على حذف التصريح.. حاولنا الاتصال بالدكتور عبدالحليم قنديل، رئيس تحرير الصحيفة، فلم نتمكن.. وفى النهاية، تم الاتصال برئيس مجلس إدارتها، فوافق على رفع الحوار برمته.
كانت حوارات الأستاذ «عاكف» مسيئة للجماعة ولقيمها ومبادئها، بل لمناهجها.. فقد كان يستعمل ألفاظاً غير لائق صدورها من فرد عادى، ناهيك عن المرشد العام.. وإذا نظرت إلى العبارات التى ساقها على لسانه تجد آخرها يناقض أولها، وإذا نظرت إلى السياق العام تراه مضطرباً.. فهو على سبيل المثال يؤكد فى أول الحوار أن السياسة مهنته وله فيها الباع الأوفى، ثم تجده يقول فى نهايته إنه لا علاقة له بالسياسة، وهكذا.. وقد عرف عنه رؤساء ومدراء التحرير عصبية المزاج الحاد الذى يفقده السيطرة على نفسه أو كلماته حال استفزازه، وبالتالى يسهل استدراجه إلى ما لا يحمد عقباه.. فكانوا يسوقون إليه الصحفيين من ذوى البرود و«السماجة»، فيضيقون عليه الخناق بوسائلهم وأسئلتهم اللزجة أو المستفزة، وتحت وطأة الانفعال، يتلفظ بما لا يكون فى التصور أو الحسبان.. وقد عرف عنه أغلب الصحفيين ذلك، وكان بعضهم يقول إذا أردنا الحصول على عناوين أو مانشيتات ملتهبة قمنا بالاتصال بالأستاذ عاكف(!) وقد كان من نتيجة هذا المزاج العصبى عدم التقدير الواقعى للأمور.. فهو كثيراً ما يستتفه أو يهوِّن من شأن الأمور الكبيرة، والعكس نجده يهول ويميل إلى تضخيم الأشياء البسيطة بصورة مذهلة تثير دهشة واستغراب الكثيرين.. وكما سبق أن ذكرنا، غلب على الرجل السطحية الشديدة فى تناوله لكثير من القضايا، حتى ليخيل إليك أنك أمام إنسان معدوم الثقافة، محدود الأفق، قليل البضاعة فى العلم والمعرفة، الأمر الذى كان يتطلب منا جهداً كبيراً، خاصة أمام النخبة.. فنحن نريد أن نتكلم لنغطى قصوره، وفى الوقت ذاته نريد أن نظهره فى الشكل اللائق بمرشد جماعة لها حجمها ووزنها وانتشارها على مستوى مصر والعالم.. ثم إن الرجل لا ينظر لأبعد من موطئ قدمه، وهو ما كان يوقعنا فى حرج بالغ أمام الآخرين.. كان التسرع والعجلة ومحاولة استباق الأمور قبل أن يتوفر لديه قدر معقول من المعلومات سمته وصفته التى لا تخطئها العين.
كانت حوارات الأستاذ «عاكف» مسيئة للجماعة ولقيمها ومبادئها، بل لمناهجها.. فقد كان يستعمل ألفاظاً غير لائق صدورها من فرد عادى، ناهيك عن المرشد العام.. وإذا نظرت إلى العبارات التى ساقها على لسانه تجد آخرها يناقض أولها، وإذا نظرت إلى السياق العام تراه مضطرباً