اختلف المؤرخون فى عيد ميلاد «أم كلثوم» ولكنهم لم يختلفوا على مكانتها فى قلوب ووجدان المصريين، ولكن مؤرخى الموسيقى اتفقوا على أنه نهاية ديسمبر نظراً لعدم دقة سجلات المواليد فى ريف مصر وقت ولادتها، كتب الكثيرون عن أم كلثوم مجلدات ومجلدات ولكنى أستدعى ذكرى ميلادها فى هذا الوقت لأتحدث عن أهمية القوة الناعمة المصرية الثقافية والفنية التى تتعرض لهجمة شرسة من خفافيش الظلام ذوى القلوب الغليظة والحس البارد والوجدان الصدئ، ولست مؤرخاً موسيقياً حتى أتناول مكانة أم كلثوم الفنية التى جعلتها هرماً مصرياً رابعاً منحوتاً من الفن والإبداع، ولكنى سأتناول زاوية كيف أن الفن الصادق والإبداع الحقيقى يعيش برغم الهجوم الشرس، عاشت أم كلثوم فى الضوء حتى بعد رحيلها وتوارى من هاجمها إلى الظل، وهكذا الفن يكتب الخلود لصاحبه ويضيف إليه حياة بعد حياة.
هوجمت أم كلثوم من زاويتين الأولى الزاوية الدينية والثانية الزاوية السياسية وكل منهما كفيلة بتدمير وطن وليس بتدمير فنان يقف بمفرده لايملك إلا فنه يواجه به العالم.
صوّب بعض رجال الدين سهامهم إلى أم كلثوم وبدأ الهجوم من منطلق الغيرة منها أو الغيرة على الدين كما برر البعض خوفاً من دخول صوت امرأة على تلاوة القرآن بعد أن قرأت أم كلثوم بعض الآيات بصوتها الساحر فى فيلم «سلامة»، وبلغ الهجوم أشده مع ظهور ظاهرة الشيخ كشك الذى كان يحشو خطبه بهجوم قاس ولاذع على أهل الفن وعلى رأسهم أم كلثوم، ولا أنسى خطبته الشهيرة التى هاجم فيها أغنية «انت عمرى» قائلاً: «خدنى فى حنانك خدنى.. عن الوجود وابعدنى» فتندر عليها الشيخ كشك بقوله «امرأة فى الستين عمرها تقول خدنى فى حنانك خدنى.. يا شيخة ربنا ياخدك».
ظن الكثيرون أن أم كلثوم ستموت فنياً وتتوارى بعد الثورة لأنها غنت للملك وأسرته، وهى لم تكن أغنية واحدة بل أغان منها:
• أغنية غنتها أم كلثوم فى عيد ميلاد الملك ١١ فبراير ١٩٣٧
اجمعى يامصر أزهار الأمانى، يوم ميلاد المليك
واهتفى من بعد تقديم التهانى شعب مصر يفتديك
طلع السعد عليها يوم ناداهاالبشير، قائلا فاروق هل
ونمى البشر إلينا يوم وافانا السرور بهلال قد تجلى
لاح فى أفق المعالى زاهيا باهى المحيا
• «ارفعى يامصر أعلام السرور» بمناسبة زواج الملك
• «أشرقت شمس التهانى» بمناسبة زواج الملك فاروق
• «يا أغانى السماء» بمناسبة ميلاد الأميرة فريال
• «مبروك على سموك» بمناسبة زفاف ولى عهد إيران والأميرة فوزية
• «يا بدر لما جبينك لاح» فى ذكرى زواج الملك
• «لاح نور الفجر» بمناسبة عيد جلوس الملك
ومن الطرائف عن أغنية ياليلة العيد أنها أغنية أهدتها للملك فاروق فى عيد جلوسه، الذى أقيم بملعب مختار التتش وظل الحفل الذى أحيته أم كلثوم فى النادى الأهلى ليلة عيد الفطر عام 1944، وحضره الملك فاروق، وأنعم فيه عليها بنيشان الكمال وقالت فيها:
يعيش فاروق ويتهنى ونحيى له ليالى العيد
حبيبى زى القمر قبل ظهوره يحسبوا المواعيد
حبيبى زى القمر يبعث نوره من بعيد لبعيد
والليلة عيد ع الدنيا سعيد
عز وتمجيد لك يا مليكى.
وبالفعل حدثت محاولات لإدراج اسم أم كلثوم كواحدة من الفلول بلغة السياسة الآن، وتم منع إذاعة أغانى أم كلثوم من الإذاعة نهائيا وطردها من منصب (نقيبة الموسيقيين) باعتبارها (مطربة العهد البائد)، وهو قرار فردى تم اتخاذه من قبل الضابط المشرف على الإذاعة (هل يتذكر أحد اسمه الآن)، ويقال إن الموضوع وصل إلى جمال عبدالناصر شخصيا، وألغى هذا القرار، ويذكر أن الذى أوصل إليه الموضوع هو مصطفى أمين فى سبتمبر 1952 وعلى إثر نزاع على منصب النقيب يتم إلغاء انتخابات النقابة، ويتم تعيين محمد عبدالوهاب نقيبا للموسيقيين، على إثر هذا الموقف وما تردد عن مساندة بعض الضباط الأحرار لعبدالوهاب؛ تُبَلِغ أم كلثوم قرار اعتزالها إلى الصاغ أحمد شفيق أبوعوف، الذى نقله إلى مجلس قيادة الثورة، فذهب إليها وفد مكون من جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وصلاح سالم لإقناعها بالعدول عن رأيها.
قصص تناثرت هنا وهناك عن محاولات اغتيال أم كلثوم تارة من رجال الدين وتارة أخرى من رجال السياسة ولكن الفن لا يغتال وأم كلثوم قدمت غناء ضد الفناء.