نسيت ونسينا فى غمرة الانشغال بحكم المرشد واستبداد جماعته، أن فى مصر حدائق وأشجاراً من المانجو واليوسفى وقطوف الكرز والعنب، وقامات نخل، تخفى تحت عرجونها القديم خزائن التمر، ونسينا أن فيها قباباً ومآذن وآثاراً وملاعب صبية يمرحون فى لهو برىء، وصبايا تتهدل جدائلهن فوق أكتافهن من نشوة اللعب.
أنسانا صخب الجماعة الحمقاء هدأة الليل وصوت السكينة فى النجع الجنوبى وفى قرى وكفور دلتانا.
أنسانا سعيهم المحموم لتحصين كراسيهم أن الحصون فى سياج المحروسة كانت للغزاة، وأن الطوابى على السواحل كانت للمستعمرين.
أرجوكم حاولوا مرة أن تمتنعوا عن الاستماع لخطاب الرئيس وتصريحات المرشد وقادة الجماعة، وأنصتوا لجلال صوت محمد رفعت، وجلجلة النقشبندى، وأناشيد سيد درويش، وسحر كوكب الشرق، وصبح محمد قنديل، وأرغول فيروز، وأصداء خطاب التأميم، ساعتها سترتفع هامتك بعد طول انحناء، وتتشرب حواسك كيمياء الوطن الأكبر، فتكبر فى لحظة واحدة ألف عام، ثم تبنى سفينة نجاتك من طوفان القبح والرذالة الذى ساد وطمس العيون والآذان كأسراب الجراد.
جربوا مرة أن تغلقوا كل وسائل الإعلام فى وجه جوقة الصارخين فى برِّية العقول والقلوب والأسماع، وافتحوا نافذة الروح على الخيط الأبيض حين يتسلل فى غبشة الفجر، وحين يكبر ويسطع حتى يصير قرصاً من الشمس.
اهبطوا مصر العليا، واقرأوا ما تيسر من آيات الفخر والمجد، صلوا فى مقام أبى الحجاج، قبل أن تسيروا الهوينى على طريق الكباش، ادخلوا أفواجاً إلى الساحة الرضوانية، ثم اعبروا النهر الخالد إلى القرنة والدير البحرى، هل أويتم قليلا فى ظل أسوار مصنع السكر بأرمنت لتأكلوا قليلاً من عيش الشمس والجبن القديم وتقتسموا فحل البصل، ثم تشربوا من فخار قنا ماءها العذب سائغا فى لفح الظهيرة؟
انسوا الإخوان ساعة تصح أبدانكم، وتصفو نفوسكم، وتعتدل أمزجتكم، وتغادرون سقم النفس إلى صحة الوجد وسلامة الوجدان.
أقسم بالله وبالبلد أنكم لو امتلأت أعينكم بجمال توربينات السد العالى، وامتلأت معدتكم بفول المناعية المكمور على جمر أسوان، لنسيتم كهنة المقطم وفراعين الاتحادية.
أرجو أن تتوسطوا الطريق الجنوبى فى استقامته الصخرية وفى تعرجه الأخضر، لتسلموا على الأنصار والأشراف والعرب، ولترقصوا فى العرس النوبى، قبل أن تمضوا شمالاً لتلحقوا بوردية مجمع الألومنيوم، ثم اسعوا فى مناكب سوهاج، صافحوا الهوارة والهمامية والجهانوة، واقرأوا كتاب طهطا الرفاعى، واستمعوا فى المنشأة لسورة الناس بتلاوة الشيخ المنشاوى.
وفى أسيوط اصعدوا جبل البدارى آمنين، وانزلوا بعدها إلى سهل النخيلة كمسافرين زادهم الخيال، ومروا على بنى مُر ومخزن الغلال فى أبى تيج، وتزودوا من ابتهالات التونى وياسين فى الحواتكة، ثم سيروا فى طريق العائلة المقدسة، واشربوا ماء الورد فى دير العذراء، وتوقفوا أمام قلايات الرهبان فى المحرق.
ادخلوا المنيا واستعينوا بالعسل على مرارات الغربة فى الوطن، إنهم أصهار النبوة فى مارية، ومهد الجمال فى نفرتارى، ومصنع الرجال، وصاحبة كتاب الأيام.
وحينما تولى وجهك شطر الفشن وببا فأنت فى حضرة التاريخ، وإذا وصلت الفيوم، فاذكر فى كتاب ذاكرتك أن قارون لم تنفعه العصبة أولو القوة ولا نفعته مفاتيح قصوره الشامخة غروراً وكبراً.
أرجوك إذا وصلت قاهرة المعز أن تتوضأ عند الملك الصالح لتلحق صلاة العصر فى فسطاط عمرو بن العاص، وحينما تشرب شاياً أخضر بالقرب من مسجد السيدة عائشة.
تذكر أنك قد طويت صفحة الإخوان قليلاً من الوقت، ربما لتتزود من إكسير المناعة المصرية، ما يجعلك قادراً على مواجهة جريمة اختطاف الكنانة، يمكنك أن ترتاح بعضاً من الوقت، وأن تمر على ديار مصر القاهرة، وتلتقى أحبابها فى المساجد والأسبلة والتكايا، وفى الحارات التى تحمل الدفء للشوارع والميادين، لتجهز نفسك بعدها لزيارة الدلتا والساحل والصحراء والواحة، لكنك فى كل الحالات تعطى نفسك إجازة من القبح والصلف والغرور والدمامة والزحام فى إشارات المرور إلى رحابة الإحساس بأنك تنتمى إلى بلد، تستطيع معدته الصلبة أن تطحن الزلط وحجر الصوان، لكنها لا تستطيع أن تهضم أعشاب الشوك الملتفة حول خضرة ساقيها، فتتقيأها، لترمى بها خلفها، ثم تمشى بخطى واثقة غير آبهة بالعواء.