أذكر موقفاً حدث لى منذ أكثر من عشر سنوات، فى ليلة من الليالى وأنا أستعد للنزول لصلاة الفجر، حدثتنى نفسى أن أرتدى عباءة كان قد أهداها لى عمى من فترة كنوع من التغيير وكسر الملل.. فأخرجتها من الدولاب، ثم رأيت أن أُكمل الطقم كنوع من الترويش الصراحة، فوجدت جلباباً أبيض كان عند أبى لم يعد يلبسه وطاقية بيضاء.. ووجدت عندى غترة بيضاء كنت قد احتفظت بها بعد عودتنا إلى مصر من إحدى البلاد الخليجية.. المهم خلال بضع دقائق كنت فى الشارع وأنا مطقم حاجة كده أبيض ف ابيض.. كان فاضلى جناحين وأطير وأرفرف فى الفضا..
دخلت المسجد، صليت ركعتين ثم جلست أنتظر الإقامة.. لاحظت أننى لم أحلق ذقنى منذ فترة مثلى مثل أى طالب جامعى قبيل موسم الامتحانات.. سرحت قليلاً فى مادة محاسبة التكاليف، وهممت أن أحسبن على الدكتور والسيكشن وجميع أعضاء هيئة التدريس، فصدح المؤذن فى اللحظة المناسبة بإقامة الصلاة.. استغفرت وقمت أبحث عن مكان لى فى الصف الثالث وربما الرابع.. لكن فوجئت بيدٍ تدفعنى من الخلف بقوة إلى الصف الأول!.. عادى.. ربما لم ألحظ ذلك المكان الشاغر فى الصف الأول.. ثم لاحظت همهمة حولى وبعض الأيادى تشير نحو سجادة الإمام.. نظرت إلى تلك الأيادى فوجدت أصحابها جميعاً ينظرون إلىّ فى إجلال وتوقير ينتظرون تقدمى لإمامة الصلاة! عقدت الدهشة لسانى.. حاولت التعبير بنظراتى والإيحاء بحقيقتى كمجرد شاب جامعى سنكوح أراد أن يجرب عباءة عمه.. إلا أن إرادة الناس كانت أقوى منى.. فى تلك الليلة صليت الفجر إماماً، وستر الله أمرى ببعض السور التى كنت أحفظها ودروس التجويد فى الصغر..
فى الليلة التالية استيقظت على أذان الإقامة فانتفضت مسرعاً لأدرك صلاة الفجر فى المسجد، واضطررت أن أنزل دون تغيير ملابسى، أعتقد أننى كنت أرتدى «ترينجاً» من ترينجات التوحيد والنور أو شىء من هذا القبيل.. دخلت المسجد، أنا الذى كنت إماماً فى الليلة السابقة فلم يكترث بى أحد على الإطلاق! ووجدت نفسى أقف مرة أخرى فى مكانى الطبيعى فى كل صلاة فجر.. فى الصفوف الأخيرة.. دون أيادٍ تجذبنى للأمام.. ودون نظرات الإجلال والتوقير.
كنت أحكى هذا الموقف المحرج عادة بين العائلة والأصدقاء على سبيل الفكاهة والتندر. إلا أننى تذكرته اليوم وكلّى حسرة وألم ومرارة على ما وصلنا إليه من انخداع بالمظاهر وتزييف للحقائق.. حتى إنه أصبح بديهياً اعتبار كل ذى لحية وجلباب وقلقلة؛ شيخاً فقيهاً نأخذ عنه الدين والفتوى..
إن ما نراه وما نسمعه على الفضائيات من كلام يصدر من أشخاص يدّعون أنهم أهل الدين وخاصته -ربما بحسن نية أو عن جهل- يصيبنى بالاكتئاب، فكيف أربى أبنائى على حسن الخلق وعفاف اللسان من منطلق ديننا العظيم، وهم يرون عكس ذلك ممن يُفترض فيهم القدوة والمثال أصلاً! للأسف أنا لا ألوم من يجعل هؤلاء المحسوبين على الدعوة الآن مادة للسخرية، ولا ألوم هؤلاء «الدعاة» فهم بالتأكيد يفعلون ذلك إيماناً منهم بأنه الصواب والدفاع عن الحق.. إنما والله ألوم كبار مشايخنا وعلمائنا الأفاضل المعتبرين، لغيابهم وانشغالهم عن تبيان صحيح الدين.. كما ألوم الإعلام، الذى لا يلتفت إلا لكل سقطة ولقطة.. فى زمن يحكمه الإفّيه.. والقافية.