دائماً يتحدثون عن مصر الراسخة أقدم حكومة التى لا تغير عاداتها أو تقاليدها أو مزاجها، أو بلغة العصر «الموود» بتاعها، لكن مصر على عكس التوقعات التى دائماً ما تراهن على أنها بلد الأهرامات الثابتة والمزاج الثابت أيضاً، الشعب المصرى تغيرت ملامحه واختياراته ومذاقاته، صار مستعصياً على تحليلات وإحصاءات واستطلاعات رأى مراكز البحث السياسى والدراسات الاجتماعية والاستراتيجية!
تعالوا نتجول فى سراديب وتلافيف المزاج والموود المصرى ونصور ونرصد ونراهن على أن الثابت المصرى الوحيد صار هو التغير:
- برامج التوك شو قبل الثورة كانت فى طور الذبول واستعد الجميع لكتابة شهادة وفاتها، جاءت ثورة يناير لتلقى إليها بطوق النجاة وتنتشلها من انفضاض الناس من حولها، ولكن سرعان ما تغير المزاج المصرى وعاد المواطن إلى سيرته الأولى كفلاح ينصت إلى منشد الربابة والسير الشعبية، رجعت برامج التوك شو إلى الخلف خطوة وصارت برامج المونولوج التى يتحدث فيها شخص واحد صاحب كاريزما فى فضفضة متصلة لساعات وساعات هى البريمو! يضبط الشعب ساعاته الآن على برنامج إبراهيم عيسى فى العاشرة وعلى باسم يوسف فى الحادية عشرة من يوم الجمعة، يجتمع الاثنان على اللماحية وروح السخرية وذكاء المفارقة، المصرى معهما يعافر مع العيشة ويضحك ويصر على أن يتخلص من إرث النكد وحاضر الكآبة.
- طالما اتهم المصرى بأنه يعشق الشكليات ويقدس الطقوس ويهمل الجوهر، ظل الشكل طويلاً هو مقياس التدين بالجلباب القصير والذقن والنقاب والسواك...إلخ، الآن تغير الموود وخدش هذا التابو إلى درجة كبيرة، هذا المزاج المطيع الأخرس صار يصرخ حتى فى الجامع ولمن يقف على المنبر إن لم يعجبه حديثه، لا أتحدث الآن عن مدى صحة هذا التصرف أو خطئه، لا أتحدث عن تحريمه أو تجريمه، ولكنى أتحدث عن سلوك لا أستطيع أن أسميه عدوانياً ولكن من الممكن أن أسميه احتجاجياً تسيطر عليه انفعالات اللحظة أكثر مما تسيطر عليه رجاحة منطق التوازن والحسابات.
- «كله بالدراع» صارت هى حل الشفرة المصرية وأخطر ما حدث للموود المصرى الوديع المرتبط بالنهر لا بالجبل والصحراء، كما كان يقول علماء الاجتماع والجغرافيا السياسية، أن حقه ياخده بدراعه لا بالقانون وهذا متوقع فى بلد لا تحترم سلطتها الحاكمة القانون! وأخطر مظاهر تغير المزاج المصرى توقيع عقوبة السحل والضرب حتى الموت وسمل الأعين وبتر الأطراف لمن يقبض عليه أهل القرية بتهمة البلطجة ثم تعليقه على عمود إنارة أو نخلة ثم اللف بتوك توك أو تروسيكل فيه بقايا أشلائه للفرجة عليه ومن ده بكره بقرشين وكأنهم يستعرضون ذبيحة جزار فى السلخانة!
- مصر عاشت كل هذه الفترة بدون كورة! بالرغم من أنها ليست فى حالة حرب إلا أنها استطاعت واستطاع شبابها أن يواصل الحياة بدون الساحرة المستديرة والمستطيل الأخضر، كان هذا خيالاً مستحيلاً ورهاناً خاسراً وحدثاً لا يصدق، كانوا زمان يقولون الغى الكورة حتحصل ثورة، واللى حصل حدثت ثورة فاتلغت الكورة!! والناس ولا فارق معاها بل على العكس سرعان ما وجد غلاة المشجعين، وهم الألتراس، طريقاً جانبياً لتنفيس الغضب والطاقة اسمه السياسة وعندما حدثت مذبحة بورسعيد استيقظ هؤلاء على أن هناك ما هو أكبر وأهم من مجرد التصفيق وأن كل شىء مرتبط بالسياسة.
- روب القاضى دائماً ما يفرض التحفظ والميل إلى المشى بجانب الحائط وعدم مخالطة الناس، ما حدث هو أن القاضى تحرر من الياقة البيضاء وتحفظات الروب الأسود والتحم مع الناس ووضع بذرة الاحتجاج فى رحم المجتمع، بل قاد مظاهرات الرفض، بل أكثر من ذلك اعتصم، ونحن جميعاً نعرف ماذا كانت تعنى كلمة اعتصام قبل أن يتغير موود المصريين.