رغم أنه لا يوجد ود متبادل بينى وبين كتب الحكام والرؤساء العرب لأنها فى الغالب كتب دعائية تفتقر إلى الصدق وغالباً ما يكتبها صحفيو البلاط أو فقهاء السلطان، إلا أننى عندما قرأت كتاب الرئيس التونسى د. منصف المرزوقى «الإنسان الحرام» غيّرت وجهة نظرى وتخليت عن توجسى، فالكتاب فعلاً كتاب رائع. والأهم من جاذبية موضوع الكتاب التى سأكتب عنها فيما بعد جاذبية الأسلوب وعمق اللقطة وحساسيتها، كتاب «الإنسان الحرام» قراءة جديدة للإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وهو موضوع من الممكن أن يكون قد تناوله كثيرون، ولكن الجديد هو المقدمة الثرية المدهشة التى يتحدث فيها الرئيس التونسى عن معنى القراءة وكيف تقرأ، نصائح ذهبية لتأسيس فكر نقدى جديد لمواطن عربى جديد حر ليس من الرعية أو العبيد ولكنه مواطن يعرض كل شىء وكل فكرة على طاولة التشريح ولا توجد أمامه لمبات حمراء وممنوعات فكرية ومحظورات ممنوع أن يتعاطاها، بالطبع لن أتحدث عن دلالات اهتمام الرئيس المرزوقى بإرسال كتابه إلى بعض الكتاب الذين تشرفت بأن أكون منهم بإهداء شخصى وكلمات رقيقة، فهذا يحتاج إلى قراءة خاصة منفصلة لشخصية مثقفة تشربت الثقافة الفرنسية المنفتحة التى دخلت فى نخاعه ولم تكن مجرد انتقال بالجسد والباسبور فقط، فمنصف المرزوقى أستاذ الطب لم يكن هناك سائحاً وإنما كان متفاعلاً إيجابياً بالعين والعقل والروح، ولكن ماذا عن القراءة ووجهة نظره فى ممارستها؟
عيب القراءة عندنا كما يقول المرزوقى هى أنها قراءة لا تكتشف النص بل تبحث فيه عن قناعات مسبقة، العيب هو أنك تدخل على كتاب دينى أو سياسى مثلاً لتتأكد من أولوية دينك أو اعتقادك السياسى على ما يخالف لتشارك فى جوقة المدح أو القدح، أنت لا تقرأ إذن لكى تكتشف النص وإنما تبحث فيه عن قناعاتك للقبول المطلق أو الرفض المطلق، ويشبّه المرزوقى تلك القراءة بتشريح الأطرش لسيمفونية بتهوفن على الورق، هى بمثابة محاولة فهم عمل الجسم الحى عبر تشريح جثة الميت، القراءة هى عملية أكبر من تصفح الجرائد أو ترتيل المؤمن، إذن ما هى القراءة؟
المساحة صغيرة على تلخيص الأفكار الرائعة التى طرحها المرزوقى عن عملية القراءة، ولذلك سأقتبس سريعاً بعض العبارات الدالة:
* الاطلاع هو المرحلة الأولى، وهو تعرف عبر تسجيل سريع إذا تأجج الانتباه ننتقل إلى الاستكشاف.
* الاستكشاف كنزول الغواص إلى الأعماق بحثاً عن كنز مجهول من الممكن أن نجد الصدف أو اللؤلؤ، ننصح الغواص بالصبر وإزالة الغشاء الحاجب للأبصار الذى يغطى قراءة العقائدى لنصوصه ونصوص أعدائه.
* الحل هو أن تقول للنص: رغم سمعتك السيئة لدىّ ولدى من حولى سأقرأك دون إدانة جاهزة وما عليك إلا إقناعى، والعكس صحيح بالنسبة للنص ذى السمعة الطيبة.
* الفهم ليس هدف القراءة الوحيد بل هو وسيلتها، وقيمة النص ليست فى ملء فراغ الذهن بقدر ما هى فى قدرته على إحداث تغيير داخل ذهن المتلقى.
* للنص دوماً مؤلفان: الكاتب والقارئ.
* إضفاء هالة القداسة والعصمة على نص كتبه أى إنسان هى حيلة تنم عن ضعف ولا بد أن تستثير فيك شهوة أعمال الأظافر والأنياب، أن النصوص تتناهى ولا تتناهى أحوال الناس!