الثورة فعل فطرى أودعه الله فى النفس البشرية كى يكون بمثابة صمام الأمان الأخير، وهى تعمل ضد عقل الإنسان ومنطقه فى كثير من الأحيان للتغلب على غريزة الخوف.. فإذا تعرض الإنسان إلى ظلم وقهر من شخص أو كيان أقوى منه، فإن عقله يدفعه عادة إلى تقبل هذا الوضع والتأقلم عليه خوفاً من المواجهة.. إلا أن طاقة الغضب التى تولد حينها داخل الإنسان رافضة للظلم والطغيان تبدأ تكبر أكثر فأكثر، حتى تصل إلى درجة تكسر فيها حاجز العقل والمنطق، فتتحول إلى ثورة عارمة، يوجه فيها الإنسان كل طاقته وقوته ضد مصدر الظلم، غير عابئ بالعواقب حتى لو أدت إلى موته.. فالانتصار هنا هو انتصار مبادئ لا نتائج، وأسمى مبادئ الإنسان وأثمنها، حريته وكرامته.
ولأن الثورة طاقة غضب فى الأصل، فإن وسط مشاعر الكراهية والسلوك العدوانى قد يخسر الإنسان الثائر الغاضب أهم مكون حضارى ورثه من أسلافه الصالحين.. ألا وهو الأخلاق.
وهذا ما ألاحظه منتشراً بيننا هذه الأيام، فأصبح السب واللعن وبذاءة اللسان والفحش القولى والفعلى، سلوكيات لا يفعلها السوقة والسفلة فقط كما كان الحال دائماً فى أى مجتمع طبيعى، بل وصل الأمر الآن إلى أننا نسمع نفس تلك الألفاظ والمفردات تتردد على الملأ بلا استنكار ولا استغراب، فى أوساط المثقفين والفنانين والإعلاميين والنشطاء والسياسيين، وحين يصل الأمر إلى دروس ولقاءات بعض المحسوبين على الدعوة، فإن الأمر قد وصل فعلاً إلى حد الكارثة.
وانظر إلى وسائل التواصل الاجتماعى التى أصبحت ساحة انحطاط أخلاقى جماعى، تتساوى فيه لغة الشباب والشابات من ذوى الحسب والنسب المتعلمين والمتعلمات فى أرقى الجامعات، مع لغة تجار الحشيش والساقطات وقاطعى الطريق والبلطجية! وأصبح فيه الرأى السياسى ما هو إلا كومة مقيتة من البذاءات والسباب يرميها أحدهم على رأس شخص أو تيار أو حزب.. فتتلقفها بسعادة بالغة أزرار الريتويت واللايك والشير.
لا أريد أن أبدو مثل الواعظ الذى ينسى نفسه، فأنا لا أستثنى نفسى من ذلك السقوط الأخلاقى.. وأتذكر جيداً كيف عاتبنى أحد أصدقائى على تجاوز الخط فى إحدى الحفلات حين أشرت إلى حذائى فى نهاية أغنية تعارض القيادة السياسية وقتها.. وأذكر جيداً كيف دافعت عن هذا الفعل بمنتهى الاقتناع، حتى إننى -لتبرير فعلى من منظور دينى- أوردت بعض المواقف التى خرج فيها بعض الصحابة عن شعورهم نصرة للحق.. واليوم، بعد أن راحت السكرة.. وهدأ الغضب، ظهرت حقيقة سقوطى.. وتهافت كل منطق أخذته كذريعة ودليل على صواب ما أفعل.. فهل يعنى أخذت كل ما كان عليه صحابتنا الكرام من إيمان وتضحية وصدق وشجاعة، حتى آخذ عنهم ما بقى من زلاتهم البشرية أيضاً؟
الشتيمة بتريّح.. حكمة لا أستطيع إنكارها، ولكنها تجعلك تخسر احترامك لنفسك وللقيم التى تربيت عليها، تجعلك تهبط إلى القاع الأخلاقى وتتلطخ روحك بالوحل فتصبح أنت والسفلة سواء.. لا أدرى إن كان الوقت قد فات أم لا.. لكنى وبصدق.. أعتذر عن كل إساءة خرجت منى فى لحظة غضب. وأقتبس أخيراً حكمة خالدة للكاتب العبقرى عباس العقاد: «كن شريفاً أميناً، لا لأن الناس يستحقون الشرف والأمانة، بل لأنك أنت لا تستحق الضِّعة والخيانة».