«استقلال الأزهر» مطلب كثر الكلام فيه، وهو كلام يحتاج إلى ضبط ومراجعة، من ذلك أن بعض المطالبين باستقلال الأزهر وضم الأوقاف والإفتاء إليه هم الذين يحاولون السيطرة عليه، وخطفه وتحويله من «الاستقلال» إلى خدمة تياراتهم وأيديولوجياتهم وأحزابهم كما فعلوا بمساجد الأوقاف، وبعيدا عن هذا فإن استقلال الأزهر وإن بدا للوهلة الأولى فى ظاهره تقوية للأزهر، إلا أن فى باطنه ومآلاته فيه دمار الأزهر وهدم له، وينم عن حاجة لإدراك الدولة والحالة والواقع.
فاستقلال الأزهر ماديا وإداريا ومعنويا يحتاج مناقشة، فمن الناحية المادية فإن جملة الأوقاف 250 ألف فدان، ضاع منها 100 ألف، وتبقى 150 ألفاً، تم استرداد 100 ألف، وحصيلة الموجود لا تزيد على 15 مليون جنيه فى السنة، وتدفع الدولة للأزهر 4 مليارات و7 من عشرة، حسب ميزانية 2011، والأزهر يحتاج إلى 80 مليار، فلو قطعت عنه هذه الميزانية وتُرِك ومحض موارده لانخرب، وسيزداد خراباً لو ضم إليه الإفتاء والأوقاف، مع أن ضم الأوقاف مستحيل، فإن كان المقصود هو الاستقلال مع بقاء دعم الدولة فهذا ليس «استقلالا»، لكن «إصلاح»، ولا أدرى كيف تكفل الدولة «الاعتمادات المالية الكافية» للأزهر، وقدرها 80 مليار، كما فى المادة 4 من الدستور!
وأما الاستقلال الإدارى فمعناه انتزاع الأزهر من بنية الدولة، كأنه دولة داخل دولة، وهذا معناه انغماس الدولة بمفهوم الدولة (وليس الأفراد) فى العلمانية، فيصير الأزهر مسلوخا من الدولة.. لا يأخذ من الميزانية، مع عزله إداريا، فنفقد السقف الضاغط على بقاء الهوية، إلا بمقدار العبارة المنصوص عليها فى الدستور «يؤخذ رأى هيئة كبار علماء فى الشئون المتعلقة بالشريعة»، مع كل ما فيها من إشكالات.
كما أن الأوقاف بوجودها ضمن الدولة تحقق ملمحاً إسلاميًّا فى التشكيل الوزارى، ورفعها يعنى خلو التشكيل الوزارى من (صبغة إسلامية رسمية)، بعد رفع الإفتاء عن وزارة العدل، وبهذا تتحول الدولة للعلمانية، ولم يتبقَّ من هويتها (رسميا) بعد ذلك إلا المادة الثانية من الدستور.
وأما الاستقلال المعنوى، ومعناه أن يكون للأزهر كلمته الحرة القوية النافذة الصادقة، فهذا عين ما ننادى به كلنا، لكن هذا لا يتحقق باستقلال الأزهر، بل بشخصية من يتولى مشيخة الأزهر.
فإن كان شيخ الأزهر ذا شخصية آسرة متغلغلة، ونفسية قيادية، يقود المجتمع، ويؤدى دوره الضابط للوضع الدينى، ويقوم برصد ومتابعة ما يطرح فى المجتمع من أفكار وتوجهات مختلفة، ويتدخل فى الحوادث المختلفة بالبيان الشافى، والمشاركة الفعالة، ممزوجاً فى كل ذلك بما يمثله من مرجعية عَقَدية وفقهية وشرعية، ففى هذه الحالة سيتحقق الاستقلال المعنوى دون الحاجة لقوانين.
فالإمام عبدالحليم محمود رفض قانون جيهان السادات، وقال: «لئن حاولوا عرضه سأهتف من فوق منبر الأزهر: يسقط أنور السادات»، فذهبوا إلى الشيخ الشعراوى، فقال: «لئن قال شيخ الإسلام هذا، سأقول أنا من تحت المنبر: يحيا عبدالحليم محمود»، حدث هذا وغيره كثير، والأزهر غير مستقل عن الدولة.
وأما إن كان شيخ الأزهر ذا شخصية ضعيفة مهزوزة مهزومة، لا يتصدى للرأى العام، ولا يتعامل بنفسية القائد والزعيم والإمام، ويسحب المتشددون البساط من تحته، وهو لا يدرى، بل يخشى أن يعلن منهجه وآراءه، ففى هذه الحالة لن يستقل الأزهر حتى لو كانت كل القوانين تسمح له وتجبره على الاستقلال.
والخلاصة أن استقلال الأزهر ماديا هدمٌ له، وإداريا علمنةٌ للدولة، ومعنويا مرجعُه إلى شخصية شيخ الأزهر لا إلى القوانين والدساتير.