بين الاستبداد والعلم حرب دائمة، كما كتب الكواكبى، فلا استبداد دون تجهيل الناس، ولا دولة حديثة دون اهتمام بالعلم والعلماء.
منابر الجمعة تضررت كثيرا من الحكم الاستبدادى البائد، وصار الكثير من خطب الجمعة أداة لتجهيل الناس بدلا من تعليمهم أمور دينهم، ووسيلة لتغييب العقول وتسطيحها بدلا من تحفيزها على التفكير والإنجاز. والسبب هو أن أنصاف المتعلمين -الذين لم يتلقوا القدر الكافى من العلم الشرعى ولا غيره من فروع المعرفة- اعتلوا المنابر ونشروا معرفة دينية مجتزأة ومنبتة الصلة بالواقع وأولوياته. والمصيبة هى أن معظمهم لا يدرك خطأ وخطورة ما يقومون به؛ لأنهم (كما معظم المصريين) من ضحايا النظام البائد وأنظمته التعليمية والإعلامية الفاشلة ولا يشعرون بفداحة ما تعرضوا له، ثقافيا وتربويا، من الاستبداد.
الكثير من خطباء الجمعة نصّبوا أنفسهم خبراء بالاقتصاد والسياسة بعد الثورة. ومنهم من يبدأ بترديد بضع آيات وأحاديث اعتقادا منهم بأنها ذات صلة بما يدور، لينطلقوا فى نشر تصوراتهم الخاطئة، كإصدار أحكام عامة غير علمية عن الديمقراطية واستنتاج أمور لا علاقة لها بالديمقراطية ووصف المنادين بها بالضلال أو العمالة أو حتى إخراجهم من الملة، أو كالهجوم على شركاء الوطن من إخواننا المسيحيين. ومنهم من يتخذ المنبر أداة لترويج برامج حزبية محددة اعتقادا بأنها تعبر عن صحيح الإسلام وأن ما عداها لا يمت للإسلام بصلة.
من الممكن أن تكون خطبة الجمعة مؤسسة تربوية ونهضوية فاعلة إنْ أحسن استخدامها. لكن الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية وثورة فكرية وجهود علمية وضوابط قانونية، تقوم بها أطراف متعددة كالدولة والأزهر والجامعات والقطاعات الأهلية والمجتمعية والدعوية.
وأتصور أن الإصلاح يبدأ من وضع معايير علمية محددة لمن يعتلى المنبر، وهذه مهمة الأزهر الذى عليه تحديد حد أدنى من العلم الشرعى ومن المهارات والمعارف الأخرى المطلوبة، وعليه إصلاح معاهد إعداد الدعاة، وغرس أسس الأخلاق الإسلامية الصحيحة، ووضع مقررات وبرامج مكثفة لرفع مستواهم وتدريس أسس العلوم الإنسانية والاجتماعية المختلفة لهم.
ومن الأهمية إفهامهم أن «التخصص» و«التمايز الوظيفى والعضوى» أمران مهمان فى الدولة الحديثة المنشودة بعد الثورة، وهى سنة قرآنية أيضاً. فالدولة الحديثة هى دولة المؤسسات المتمايزة، التى تختص كل مؤسسة فيها بوظيفة محددة. وللعمل السياسى (بوظائفه المختلفة كوظيفة تجنيد الأنصار والمؤيدين والترويج للبرامج السياسية) منابر ومؤسسات سياسية تسمى فى عصرنا الأحزاب السياسية..
ولا يجب فهم الموضوع فى ضوء مكانة المسجد فى صدر الإسلام، فالمسجد كان عاصمة للدولة الإسلامية وكان يقوم (بجانب وظيفته الدينية) بوظائف وزارات أخرى كالتعليم والخارجية والقضاء وغيرها. لكن المجتمعات تطورت وولدت الحاجة لفكرة التمايز فى الوظائف وفى الهيئات التى تقوم بهذه الوظائف، وصار للدولة الحديثة مقر للحكم خارج المساجد.
ومن الأهمية ألا يعتلى السياسيون منابر الجمعة بعد أن سقطت دولة القمع وصارت هناك منابر سياسية متعددة، ومن الأهمية أن يهتم الدعاة بمهامهم الدعوية العامة دون تحيز لأحزاب أو تيارات سياسية.
وأخيراً يجب إعداد حملات تثقيفية وإعلامية لتوعية الأهالى والجمعيات الدعوية بمخاطر الاستسهال فى إسناد مهمة الخطابة لأفراد لم يحصلوا على القدر الكافى من العلم ولا يعرفون أبجديات فقه الأولويات.
والله أعلم