المصريون نيام فإذا ثاروا انتبهوا
صورة أرشيفية
هذا ليس جلداً للذات.
وحتى إذا كان جلداً أو حرقاً أو شنقاً، فنحن بصراحة شعب «يستاهل»: الشعب الذى «يكحت» أسفلت الشارع، وهو يكسر إشارة المرور، ويحوّل مطالع الكبارى ومنازلها إلى محطات أوتوبيس، ويتلكأ ليتفرج على حادث تصادم.. معطلاً حركة السير بطول ثلاثة كيلومترات ولأكثر من ساعتين، ويسمح لـ«عيل شمّام» فى الثالثة عشرة بأن يقود ميكروباصاً لا فيه رخصة ولا طفاية حريق ولا فوانيس ولا حتى موتور.. يستحق الجلد.
الشعب الذى يبصق على الرصيف وبسطة السلم و«طرقة» الشركة أو المصلحة التى يعمل فيها، ثم ينظر إلى هذه الفسيفساء المقرفة متأملاً، منبهراً، كأنما ينظر إلى «زهرة الخشخاش».. يستحق الجلد.
الشعب الذى يبول تحت أعمدة الكبارى ويسرق أحذية المصلين وكابلات السد فى وضح النهار، ويُحَجّب البنت «لتكون آمنة وهى تخطئ»، ويُعلّم الولد ألا يتزوج بنتاً «نام معها»، ويفرح بتدمير الفرق المنافسة ليفوز الأهلى بالدورى.. يستحق الجلد.
الشعب الذى يقرأ عنواناً فى صحيفة قومية عن «مليون فرصة عمل» فينخدع ويتفاءل، ويقرأ عنواناً فى صحيفة مستقلة عن فشل الدولة والحكومة فى حماية «جاموسة أم محمد» من إرهاب عصابة الإخوان فيكتئب ويتشاءم.. يستحق الجلد.
***
لا تقل لى إن رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو رئيس الحزب أو أى شخص فى موقع مسئولية، هبط على هذا الشعب من كوكب آخر. هذه كلها «خلايا نشطة» من لحمه الحى. ولو بدّلت المواقع ووضعت أى «خلية نائمة» من التسعين مليون «مواطن عادى» بدلاً من الرئيس أو الوزير أو «الغفير» فستنشط على الفور، وسيصل الفساد إلى الرُّكب.
نحن طبعاً، وبوصفنا محترفى كلام، لم ندخر جهداً فى إقناع «الباشمواطن» وإقناع أنفسنا بأن النظام والحكومة والأحزاب والنخب المسيسة والمثقفة والغنية هى سبب كل المصائب، وهذا ليس صحيحاً على إطلاقه، لأن الله لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم. وكل الزملاء والأصدقاء الذين سافروا إلى أمريكا أو أوروبا أو الخليج، عملاً أو سياحة، عادوا بانطباع واحد، هو أننا دولة رائدة وشعب متخلف وسوقى ومهمل وقذر ورخيص ومنافق.. و«يخاف مايختشيش». شعب عدو نفسه وعدو بلده، بدليل أنه فى أى بلد «غير مصر».. ملتزم ومنضبط ومؤدّب ونظيف، ويغير على لقمة عيشه إلى حد كراهية منافسيه والتآمر عليهم وإزاحتهم.. بل وإيذائهم إذا لزم الأمر.
***
لا أفهم لماذا يترك الباشمواطن المصرى كل عاداته «الزرائبية» على باب المطار، وعندما يعود من السفر بعد سنة أو عشرين يقاوم قليلاً، ثم ييأس ويستسلم ويعود إلى سيرته الأولى: «يا عم أنا مالى.. إن شالله تولع»!.
نحن نتحدّث طوال الوقت عن «إرهاب الدولة» لمجرد أنه معلن، ونتجاهل «إرهاب المواطن» لمجرد أنه كامن.. مع أن كليهما دليل ضعف!.
نقول إن الأحزاب السياسية شاخت ولم تعد مغرية للمواطن، لكننا لا نجرؤ على اتهام المواطن بالتفاهة، لأنه اكتفى من السياسة بالأهلى والزمالك. نعيب على المثقف عزلته وتهافته وتخليه عن دوره السياسى والاجتماعى، فى حين أن المواطن لم يعد يقرأ ولم يعد معنياً بمعرفة إلا من خلال «مراحيض» التواصل الاجتماعى!.
هاجمنا نظام مبارك لأنه -حسب اعتقاد الكثيرين- كان يُجهز «جمال» لوراثة الحكم، وتجاهلنا حقيقة أن المواطن لم يكن ليفعل شيئاً إذا استيقظ يوماً ووجد «جمال» رئيساً لمصر.. اللهم إلا تغيير الاسم فى نكته السياسية. هاجمنا مجلس طنطاوى بحجة أنه سلّم البلد إلى عصابة الإخوان، وتجاهلنا أن المواطن هو الذى أتى برئيسهم الخائن إلى سدة الحكم. ونهاجم نظام الرئيس السيسى بزعم أنه بلا «رؤية»، وتجاهلنا أن المواطن لا يريد «شراكة».. بل يريد أن يأخذ ولا يعطى. نهاجم الحكومة لأنها حكومة «كبارى وطرق» وطوارئ مستشفيات وثرثرات إعلامية لا تُسمن ولا تغنى من جوع، وهذا صحيح، لكننا نخجل من الاعتراف بأن المواطن أنانى وليس مستعداً لتضحية.
***
ما الذى يحتاج إليه المصريون ليكونوا «مواطنين» بحق؟
كنت أقول إن كل نظام سياسى حكم المصريين أخذ من قوتهم وعرقهم ما يمكن أن يُبقيه فى سدة الحكم ألف سنة، لكنه لم يستطع أن يأخذ من «روحهم» شيئاً. كانوا دائماً يحلمون ويحبون ويقاومون ويغنون ويبنون ويسخرون حتى من أنفسهم. الآن أصبحوا كسالى ومحبطين ومكتئبين ومنفلتين وهمجيين وكذابين وعدوانيين، وأقربهم إلى الله أبعدهم عنه!. ولا أكاد أصدق أن شعباً يقلب نظاماً -يقول إنه «فاسد»- ثم لا يمضى عامان إلا وقد انقسم على نفسه: هل كان ما جرى «ثورة».. أم «مؤامرة»؟. لا أصدق أن شعباً يقلب نظاماً اختاره بملء إرادته، ثم اكتشف أنه نظام خائن وفاشى وإرهابى، وقبل أن يهنأ بما جرى ينقسم على نفسه: هل كان «ثورة».. أم «انقلاباً»؟.
كأن هذا الشعب عدو نفسه:
الفاسد يقول للشريف «أنا فاسد» فى ننى عينه. القاتل يمثل بجثة الضحية ويقسمها إلى ست عشرة قطعة ثم يبتسم للكاميرا. الحرامى يسرق ليكون له «مشروع» يزكى عليه ويحج من أجله إن استطاع.. وهو دائماً يستطيع. النخبة تنافق باليمين وتناضل بالشمال. المبدع -شاعراً أو أديباً أو مفكراً أو فناناً- «ينفسن» على زميله. الإعلامى ينام على موقف ويصحو على فتنة، ويملأ «الهواء» غلاً وهرتلة.. وقس على ذلك.
***
الخلاصة أن «تغيير» المواطن أكثر أهمية وإلحاحاً من «تغيير» النظام والحكومة والأحزاب والنخب، لماذا؟. لأن المواطن جذر، وهذه كلها فروع.