حذر النبى (صلى الله عليه وسلم) من الكذب، وحذر من الوقوع فيه، وذلك لآثاره وخطورته على الفرد والمجتمع، فضلاً عما ينتظرهما فى الآخرة.. والحقيقة أنه ليس هناك شىء يشين المرء ويخل بمكانته أكثر من الكذب، فضلاً عن أنه يثير الفتن ويوقع البغضاء ويورث الحقد والكراهية بين الناس.. وقد رأيت فى حياتى كثيرين يكذبون، لكنى لم أر إنساناً يكذب كما الأستاذ «عاكف».. كان لديه معين لا ينضب.. وكنت أستغرب، كيف يكذب الرجل أمامى وأمام الآخرين ثم لا يبدو عليه أى أثر.. كنت أتوقع فى كل مرة يكذب فيها أن يظهر عليه شىء من الخجل، أو شعور بالحرج، أو حتى إحساس بأنه فعل شيئاً مستغرباً، لكن ذلك لم يكن يحدث.. وكنت أقول لنفسى: أى عجينة هذه، وأى تركيبة نفسية تلك؟.. كثيراً ما كان الرجل يدلى بأحاديث وتصريحات، ولما كانت هذه تتضمن خروجاً عن المألوف والمعتاد، وهو ما كان يعاتب عليه، فكان لا يجد غضاضة فى أن ينكر أنه قال هذه الفقرة أو تلك، ولا بأس من أن ينعت الصحفى بالكذب، وأن التصريحات التى صدرت منه قد تم تحريفها أو انتزاعها من سياقها.. فى بعض الأحيان أكون موجوداً ساعة إدلائه بهذا التصريح أو ذاك، ورغم دقة ما ينقل عنه الصحفى ما قاله، إذا به يكذبه إذا شعر أن وراءه مأزقاً، وهكذا.
أيام أن كانت أزمة دارفور مشتعلة على المستويين الإقليمى والدولى، واتهامات تكال للنظام السودانى بممارسات قتل وإبادة واغتصاب جماعى للعنصر الأفريقى هناك على يد «الجنجويد» (!)، ذهب القرضاوى والعوا (كممثلين لاتحاد علماء المسلمين) إلى هناك للوقوف على ما يجرى على أرض الواقع، وإذا بالمرشد «عاكف» يزعم فى تصريح صحفى أنه هو الذى كلفهم بذلك(!) وعلى النقيض، كانت تصدر منه خفية -على الأقل بالنسبة لى- تكليفات لبعض أعضاء المكتب أو غيرهم للقيام بمهام معينة، حتى إذا قدر الله تعالى وانكشف الأمر لى، حاول أن ينكر فى البداية، فإذا ما ضيقت عليه الخناق وأن ثمة دلائل عندى تؤكد ما أقول، راوغ وحاول تغيير دفة الحديث، وأخذ يهون من شأن الأمر بطريقة لا تليق برجل يتولى أعلى منصب فى الجماعة(!)
وفى الأزمة الشهيرة التى وقعت بينه وبين أعضاء المكتب، اتفق «عاكف» معى على ضرورة أن يتحاور مع رؤساء المكاتب الإدارية (بصفتهم أعضاء مجلس شورى عام بحكم اللائحة) كخطوة للتحاور واستطلاع رأى باقى أعضاء المجلس، وطلب منى أن أحضر معه اللقاءات فقلت إنه لا داعى لحضورى أو حضور أى إخوان آخرين معه، حتى لا يكون هناك تأثير منا على أعضاء مجلس الشورى فيتحدثون عن رؤيتهم دونما أى حرج.. طلب منى عدة نقاط نحدد فيها الرسالة التى يريد أن تصل إليهم، وأن نناقش هذه النقاط معاً، وما يتم الاتفاق عليه «بيننا» سوف يلتزم به.. وإذا به بعد ٣ أيام يستدعى فى منزله محمود عزت، ومحمد مرسى، ومحيى حامد؛ ليقول لهم إن محمد حبيب لديه تصور ما للتحاور مع أعضاء مجلس الشورى العام، فإن كان لكم تصور آخر فاجلسوا معه وما يتمخض عنه اللقاء آتونى به.. وللأسف، لم يخبرنى «عاكف» بشىء من ذلك، برغم أنى أراه يومياً.. وفوجئت بالأعضاء السالف ذكرهم يتحدثون معى لتحديد موعد للاتفاق على لقاء للمناقشة والتوصل إلى تصور موحد لتقديمه للمرشد.. وجاءنى الأخير بعدها بيوم إلى بيتى وأخبرته بخبر القوم، فقال: هم الذين جاءونى ولم أدعهم وعرضوا علىّ أن يكون هناك تصور موحد، فلم أمانع.. فقلت: يا أستاذ عاكف.. هم يقولون إنك أنت الذى دعوتهم وليس كما تقول.. قال: لم يحدث.. قلت: ولماذا لم تخبرنى به؟ فلم أجد جواباً.. فتابعت: يا أستاذ عاكف أنا لم أعد مطمئناً لما يحدث منك(!) عدت إلى الإخوة الثلاثة لأراجعهم فيما حدث، فقالوا: هو الذى دعانا(!) فهل كانوا صادقين، وهو كاذب، أم العكس؟ لا أدرى..
وعندما علمت أن ثمة تدبيراً يجرى فى الخفاء من هؤلاء الثلاثة (عزت - مرسى - حامد) وآخرين، لاختيار المرشد الجديد، وذلك قبل إجراء الانتخابات بأربعة أشهر، صارحت «عاكف» بالأمر، فلم يصدق.. وعندما علم أن الجماعة تدار من وراء ظهره، جن جنونه.. وقد أكدت له أنى لا أريد أن أكون مرشداً، واشترطت عليه ألا يترك المنصب فى يناير ٢٠١٠، كما كان يريد، وأن يستمر مرشداً عاماً آخر حتى يتسنى لنا معالجة كل أوجه الخلل بالجماعة، رحب بذلك وقال: أنا موافق.. وأريدك أن تضع يدك فى يدى لننجز ذلك.. قلت: هل نوثق ذلك كتابة؟ قال: عيب.. هذا كلام رجال.. بعد أسبوع واحد فقط، فوجئت به يقول لى: أنا خلاص «ماشى» فى يناير.. قلت: والعهد الذى كان بيننا، وكلام الرجال، أين ذهب؟ قال: خلاص بقى.. قلت: هل تظننى أهطلاً أو متخلفاً عقلياً؟ قال: إيه لازمة الكلام ده؟ قلت: لأنك كذبت علىّ.. قال وقد نفد صبره: وبعدين؟ قلت: أنا حزين.. لكنى حزين لأجلك.. وتركته ومضيت، وأنا غير مصدق لما حدث..
هذا غيض من فيض، ولو أنى أردت أن أتحدث عن نقضه للعهود والاتفاقات التى أبرمت بيننا، لامتلأت بذلك صحائف طوال، مما يدل على طبيعة هذه الشخصية التى كانت كارثة حلت بالجماعة، وبداية لنهايتها.. للأسف، البعض، سواء من الإخوان أو من غيرهم، يزعمون أنى أنتقد الجماعة بعد خروجى منها، أو أنى أنتقدها بعد أن فاتنى منصب المرشد(!!).. فأقول: هؤلاء لا يعلمون شيئاً مما حدث، وها أنذا أوضح وأكشف الستار عما كان، سواء فى هذا المقال أو فى المقالات التى سبقت، أو فيما سوف يأتى من مقالات.. أنا لم أترك موقفاً على مدى ٦ سنوات كاملة إلا وكان لى فيه ملحمة، وصلت فى بعض الأحيان إلى حد اتهام الرجل -فى مواجهته وأمام بعض الإخوان- بالكذب والغش والمراوغة والتآمر، وهى تهم كفيلة بأن تسقط تاريخ أمة، وليس تاريخ رجل.
بعد خروجى من الجماعة فى منتصف عام ٢٠١١، طالبت بلجنة قانونية تحقق مع الجميع، ولو ثبت خطئى، فلن أجد حرجاً من الاعتذار أمام الدنيا كلها، لكنهم رفضوا.. شخصياً، أريد أن أبرئ ذمتى قبل الرحيل، أمام الله تعالى، والتاريخ، والرأى العام.. لقد رأيت نهاية الجماعة مبكراً وقبل أن تصل إلى قمة هرم السلطة فى مصر، وقد أصدرت قبل ثورة ٣٠ يونيو كتاباً بعنوان «الإخوان بين الصعود والرئاسة وتآكل الشرعية» أتنبأ فيه بما حدث.. أنا أتكلم الآن من باب الاعتذار إلى الله تعالى، ومن باب التصحيح والتصويب وأخذ الدروس النافعة، لعل من الإخوان من يتدبرها ويأخذ بها، وإن كنت أشك فى ذلك كثيراً.