تدهورت أحوال الجامعات المصرية تدهورا كبيرا وتراجعت أدوارها المعرفية والتربوية والنهضوية، وصار عندنا -إلا ما رحم ربى- أشباه جامعات وأشباه أساتذة وأشباه طلاب. المسئول الأول عن هذا هو النظام السابق وسياساته المتعاقبة التى وضعت نظاما يعتمد على المركزية الشديدة فى اتخاذ القرارات ودون أى طرق فعالة للشفافية والرقابة والمحاسبة، وعلى التلقين والحفظ فى التدريس، وعلى الاستسهال فى منح الدرجات العلمية وفى الترقيات والنشر. وكانت النتيجة أن الكثيرين داخل الجامعات صاروا يقدسون ما تعودوا عليه ويخافون من التغيير وغير قادرين على تحمل أى قدر من المخاطرة للخروج من هذه الحالة. وتعوّد الناس على ثقافة أن مشاريع التطوير وتغيير القوانين تأتى من أعلى، من الوزير ومن المسئولين. للأسف لم تغير الثورة هذه العقليات بعد لأن الأمر أصبح مرتبطا بما ترتب على تلك السياسات والأنظمة من ثقافة راسخة فى عقول الكثيرين، ثقافة تعتمد على قاعدة تلخصها الآية الكريمة: «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ»(من الآية 22/الزخرف). وساعد على استمرار هذه الثقافة عدم وجود رؤية محددة للتعليم العالى بعد مرور عامين على الثورة، بجانب عدم الاستقرار السياسى والتخبط القائم بالوزارت وحالة التربص من أعداء التغيير. هذه أمور يجب أن تتغير، لا بد أن تأتى مبادرات التغيير ومشاريع التطوير من أسفل كما بكل الدول الحديثة الناهضة، أى من هيئات التدريس والمعيدين والباحثين والهيئات الإدارية وأصحاب المصلحة بالمجتمع الذين من المفترض أن يتجه إليهم الخريجون. لا يجب انتظار استقرار الأمور سياسيا، وإنما يجب أن يبادر أساتذة الجامعات وإداراتها بالعمل فى القطاعات الممكن العمل فيها. ما أتحدث عنه الآن ليس بذل الجهد لتغيير قانون تنظيم الجامعات فقط (مع أهمية هذا وأهمية الاستعداد له وإجراء ورش عمل مطولة حوله)، إنما أتحدث عما يمكن لأعضاء هيئات التدريس القيام به بأنفسهم ضمن أطر غير رسمية، علمية وجامعية ومجتمعية، وذلك بعد أن زالت القيود الأمنية وانكسر حاجز الخوف، وصرنا جميعا نتحدث عن التغيير والنهوض، مع الإقرار بأن بعض هذه الأمور قد يحتاج لتقنين لاحقا إذا اقتضت الحاجة. هناك عدة أمور يمكن العمل فيها وعدم انتظار الوزارة أو تصور أنها لا بد أن تأتى من أعلى، منها: وضع نظام للنزاهة الأكاديمية والحريات الأكاديمية ووسائل التنفيذ والمتابعة والتقييم- تطوير مقررات مناهج البحث وأدوات التحليل وأساليب الكتابة العلمية- وضع خرائط بحثية فى فروع المعرفة المختلفة ونظم للتنفيذ والمتابعة والتقييم- وضع نظم متدرجة لتطوير المناهج والكتب - تعزيز القدرات المعرفية والمهارات التدريسية ونظم الامتحانات وتقييم الطلاب- وضع نظم لقياس الأداء المؤسسى داخل الجامعات، وغير ذلك. وأتصور أن تشكيل جمعيات علمية فى كل فرع من فروع المعرفة (أو تفعيل وتطوير الموجود منها) خطوة أساسية للنهوض بكل فرع، على أن يكون لها هياكل علمية وتنظيمية وإدارية حقيقية وفعّالة، وعلى أن يتم الدفع بالشباب وتحميلهم الجزء الأكبر من المسئولية داخل هذه الجمعيات. إن إنجاز الكثير من الأمور المقترحة يمكن أن يبدأ داخل هذه الجمعيات المتخصصة، لأن الهياكل القائمة داخل الجامعات والكليات صارت تمثل عقبة أساسية أمام أى تطوير.
وللحديث بقية.