عندما بدأت تونس منذ عامين موجة الثورات والانتفاضات العربية، أكدت حينها أن التشابه بين تونس ومصر وغيرهما من دول الوطن العربى بشأن غياب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية واستشراء الفساد وإن جعلها جميعاً فى مهب الغضب الشعبى ورفع احتمالية نشوب ثورات بها إلا أنه لا ينفى خصوصية كل دولة وحتمية اختلاف المسارات من تونس إلى مصر وفيما وراءهما، وأشرت آنذاك فى سياق المقارنة بين تونس ومصر إلى تمايز دور المؤسسة العسكرية بين ابتعادها عن السياسة فى الأولى وتداخلها العميق معها فى الثانية، بين القيود الشرسة المفروضة على حرية التعبير والحريات الإعلامية فى تونس وبعض الحريات التى انتزعها الشعب المصرى تدريجياً من نظام مبارك المستبد، بين معارضة إسلامية نفيت إلى الخارج فى تونس وجماعات إسلام سياسى وإن لم يلق بها إلى الخارج فى مصر، فقد قيدت مشاركتها فى المجتمع والسياسة فى مصر ووجهت بقمع وعنف مستمرين، بين استشراء الفساد والفقر والبطالة المزمنة وتواكبهم مع تحسن معدلات محو الأمية والتعليم للطبقات الوسطى فى تونس وفساد وفقر وبطالة فى مصر معهم معدلات أمية متصاعدة وتدهور فى المؤسسات التعليمية، ولم يكن التأكيد على التمايزات بين تونس ومصر باستبعاد لقيام الثورة فى مصر الذى تمنيته وعملت من أجله، بل تقرير واقعى أن مآلات مصر ستختلف حتما عن تونس.
بالفعل، بينما استمرت المؤسسة العسكرية فى تونس على ابتعادها عن السياسة وتركتها بعد ثورة الياسمين للمدنيين ليديروها، أدار المجلس العسكرى المرحلة الانتقالية (إلى انتخاب رئيس الجمهورية) وحدد وجهتها المرتبكة وتورط فى الكثير من الأخطاء والعثرات وما زال الانقسام بشأن دوره وتداعياته (بما فى ذلك المطالبة بمساءلته ومحاسبته قانونياً عن نزيف الدماء وعن شهداء مصر فى المرحلة الانتقالية) يشكل قضية رئيسية من قضايا السياسة والرأى العام.
بالفعل، رتبت الثورة التونسية اختفاء القيود المفروضة على حرية التعبير والحريات الإعلامية وأنتجت مساحة عامة تعددية، إلا أن تعدديتها هذه صاحبها منذ اللحظة الأولى حالة من العنف اللفظى والرمزى جوهرها تقييد الحريات وقمع المرأة وتوظيف خطاب الإسلام السياسى (خاصة السلفى) للضغط على القوى الليبرالية واليسارية، أما فى مصر، فقد أعقب الثورة المصرية انفتاح فى المساحة العامة ونقاشات عامة تعددية حول السياسة والمجتمع أديرت فى البداية برشادة وعقلانية وقبول للآخر ليتنا نستطيع لها اليوم عوداً. ثم انقلب الأمر تدريجياً، خاصة مع الانتخابات الرئاسية ومعركة الدستور، إلى إقصاء واستبعاد وتخوين واتهامات متبادلة جعلت من المساحة العامة مساحة منفرة وطاردة للاهتمام الشعبى وعادت المعاناة من القيود المفروضة على حرية التعبير عن الرأى بالفعل، بينما تمكنت بعض قوى الإسلام السياسى فى تونس من توظيف تجربتها فى المنفى للانفتاح على القوى الليبرالية واليسارية والتوافق معها بشأن خارطة طريق لبناء مؤسسات الجمهورية الجديدة مازالت قائمة وإن أصابها الغموض وطالها التأخر، تحركت قوى الإسلام السياسى فى مصر باتجاه فرض الهيمنة على السياسة والمجتمع والسيطرة على مفاصل الدولة ومن ثم دخلت فى مواجهات مستمرة مع القوى الليبرالية واليسارية ولم تصنع معها توافقاً بشأن خارطة طريق للانتقال الديمقراطى.
بالفعل، اكتشف الشعب التونسى عمق الفساد البنيوى فى مؤسسات الدولة والمجتمع وتشابك أطرافه السياسية والاقتصادية والمالية على نحو يقارنه الباحثون التوانسة بفساد الثمانينات فى الفلبين وبعض جمهوريات أمريكا اللاتينية ويستدعى مواجهة سياسية شاملة يحسب لإسلاميى تونس (وهم العائدون من المنفى) الشروع بها، أما فى مصر، فاكتشفنا أيضاً فساداً بنيوياً، شبكات مصالحه موغلة فى عمق مؤسسات الدولة والمجتمع وضاربة فى مصدر ثروة المصريات والمصريين الرئيسى الذى ما زال قابلاً للتداول، وهو الأراضى، إلا أن الفساد فى مصر، ومع التأكيد على أن معدلاته لم تصل للمعدلات التونسية (وفقاً لدراسات منظمات مكافحة الفساد العالمية) لم تبدأ مواجهته الحقيقية بعد والانتقائية هى سيدة الموقف وللبعض داخل جماعة الإخوان الحاكمة الآن امتدادات يقال إنها بنيوية داخل دوائر مارست الفساد الاقتصادى والمالى وفساد الأراضى.
هذا عن التمايزات بين تونس ومصر، والتى رأيتها عشية ثورة الياسمين وثورة يناير وما زلت أراها إلى اليوم، أما ما يجمعنا فهو كون ثورة توقعات المواطنات والمواطنين التى صاحبت الثورتين وأحلامهم المشروعة فى «العيش والحرية والكرامة الإنسانية» لم تتحقق بعد، وما يجمعنا أيضاً هو ضغط مستمر على حرياتنا وحقوقنا تمارسه قوى وجماعات تتاجر بالدين وبشريعة الله ولها نظرة سطحية للمجتمعات البشرية بتنوعاتها وبحقوق المرأة بها التى تتعرض لانتهاك منظم.
كل عيد ثورة والشعب التونسى بخير ولم يفقد الأمل فى التغلب على تحديات بناء دولة الديمقراطية الحديثة ومجتمع المساواة والعدالة الاجتماعية، ونحن أيضاً.