أطراف أزمة نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية يستجيرون من العقل باللاعقل، والجميع من وحى هذه الأزمة ومن وحى كل الأزمات المتشابهة يقرأ ما تيسر من سورة الغضب، وكل طرف يعتبر نفسه أنه الحق المطلق ولا أحد لديه القدرة أو الرغبة فى تمييز الصواب من الخطأ، حوار الطرشان هو الحوار المسيطر فى هذه الأزمة بين نقابة الصحفيين والدولة، فلا الدولة ترى الإعلام كما ينبغى أن تراه وتدرك احتياجاته ولا الإعلام يرى نفسه وحقيقته بفداحة الحقيقة، نحن أمام حالة من العبث الكامل وعندما تسود حالات العبث لا تكون الكلمة أو الاتجاه أو الموقف للكبار وإنما يتصدر الصغار المشهد بينما الكبار يدفعون الثمن، وهذه الأزمة تكشف أننا لسنا فى مناخ حرية من ناحية الدولة ومن ناحية الصحافة، فالدولة لا تدعم فكرة حرية الصحافة والإعلام بشكل ملموس، وربما تأتى منها إشارات أنها غير مقتنعة بفتح المجال لهذه الحرية، المؤكد أن الدولة لديها تحديات كثيرة وصعبة سواء فى الأمن القومى أو الأمن الداخلى ولكنها حتى الآن لم تصل إلى صيغة توازن مفهومة وتوافقية بين حق الحرية واعتبارات الأمن، والمؤكد أيضاً أن الدولة ليس لديها ثقة كاملة فى النخبة سواء كانت سياسية أو إعلامية، أو ليست لديها قناعة بما يقدمون من أدوار أو ليس لديها تصور لطبيعة الدور المفترض منها، بصرف النظر عن مكونات هذه النخبة أو مدى سلامتها.
الدولة لا تصنع المناخ أو المجال لممارسة حرية الصحافة والإعلام إلى جانب التشوهات الاجتماعية الخبيثة التى أصبحت موجودة فى المجتمع نفسه وبين مكونات النخبة وبعضها البعض وهذا يجعل حرية الرأى والتفكير هدفاً طوال الوقت لجدل لا يتوقف وبؤرة صراع لا تنتهى، وتحديداً فى القضايا التى لا علاقة لها بازدراء الأديان أو بآراء فى المجتمع أو فكر أو نقد لفئات أو ممارسات اجتماعية، الدولة والمجتمع لا يعيان المناخ الذى ينتج حرية، وفى الجانب الآخر هناك جزء غير قليل من الصحافة والإعلام يتصور أن ما يقدمه هو الحرية، بينما جانب كبير منه نوع من أنواع الفوضى والهستيريا التى تصل أحياناً إلى حد الاغتيال المعنوى والإرهاب الفكرى تحت شعار الحرية، بينما هى ليست حرية، والعقلاء فى مهنة الصحافة والإعلام والرأى يسمونها تأدباً «انفلات» ولكنها فوضى حقيقية تساعد عليها الثقافة التى تشكلت عبر سنوات قليلة فى استخدام شبكات التواصل الاجتماعى، التى أسقطت كل المعايير المهنية والأخلاقية لممارسة العمل الإعلامى بدءاً من طوفان الشائعات والأخبار الكاذبة أو المختلقة كلياً، وصولاً إلى الحملات الممنهجة فى جميع الاتجاهات سواء لتصفية شخصيات أو لإشاعة فيروسات الشك والاضطراب وصولاً للتحريض على جرائم سياسية وجنائية أحياناً بلا أى رادع أو رقيب أو وسيلة لذلك ومروراً بالقاموس اللفظى الذى وصل إلى أدنى حد من التدنى، والمفجع أن مواقع التواصل الاجتماعى بقاموسها وبالأدبيات التى تنتشر فى إطارها أقوى من الأدبيات والمعايير التى ترسخت فى الصحافة وفى الإعلام وفى مجال الرأى على مدار أكثر من 100 سنة، مواقع التواصل فرضت اللاقانون واللاأدبيات على الصحافة وعلى الإعلام بكل أنواعها، فتدنى إليها بدلاً من أن يرفعها إليه، أصبح الإعلام ينقل عنها وأصبح وسيلة لترويجها فى جزء ليس قليلاً منه بدلاً من تطوره وتقوية أدواته وملاحقة وسائل التواصل وتعويض فارق السرعة، إذن نحن أمام دولة ومجتمع فى ناحية وصحافة وإعلام فى ناحية أخرى يرون الحرية فى إطار يؤكد اللاحرية، فلا يوجد فى أغلب الإعلام ما يمكن أن نراه أو نقيس عليه باعتباره حرية، وإذا قفزنا فوق الأزمة الحالية التى من حق نقابة الصحفيين التى تدافع عن كيان الصحافة والمؤكد أنها ستكسب هذه القضية، فمن يخوض معركة ضد حرية الصحافة هو الخاسر، لكن المأساة أنه لا توجد الآن صحافة.
أغلب الصحافة فى أزمة حقيقية، وبعض الصحافة عار، ومن يدرك ذلك هم أهلها، ولا توجد جهود حقيقية لإخراج الصحافة من أزماتها، ولا توجد معايير وأغلب الأجيال الجديدة التى تعمل فى الصحافة لا تملك أكثر من الطموح والحماس وبعض المهارات التكنولوجية، أما معايير مثل الكفاءة والمهنية الحقيقية أو أصول الكتابة وأساليبها والمعرفة والدقة فى المعلومات والأخبار والأمانة فى العرض والتحليل والموضوعية فى التوجه، كل هذه المعايير فى أغلب الأحيان أصبحت منقرضة، وبالتالى أصبحنا نرى حروب شوارع صحفية عبر الأعمدة والصفحات، سواء مع المجتمع أو مع شخصيات عامة أو مع جهات أو تيارات، وبالتالى أصبح المشهد الإعلامى وكأنه ميليشيات رأى بها درجة عالية من التطرف والتعصب للرأى وعدم الرغبة فى تقبل أى شىء غيره، كل متحصن باتجاه أو بما يراه صحيحاً أو بما هو مطلوب منه أو بما يمثله، وهذه الأزمات تستفحل الآن. الصخب والشجار السياسى أصبح يتدخل فى جينات المهنة وتوجهها لدرجة أفسدتها، وأغلب الموجودين الآن ممن يحملون لقب صحفى هم نشطاء عبر الصحافة وليسوا صحفيين بأى معنى مهنى أو علمى، فالصحافة فى أى مكان فى العالم هى جسر بين المجتمع والإدارة السياسية، وهى التى تحقق وتحاور وتوثق وتقدم خدمة، وكل هذه الأشياء تراجعت تحت طوفان الشجار السياسى والاجتماعى عبر الصفحات أو على الشاشات، نفس الأمراض تنطبق على الصحافة الإلكترونية باستثناء التفوق فى ضخ المعلومات بصرف النظر عن دقتها أو صحتها، نحن نذبح الدقة ونذبح الموضوعات ولا نرى إلا بعين واحدة يضعف نظرها فى كثير من الأحيان.