إذا كان أبناؤنا هم فلذات أكبادنا التى تمشى على الأرض، فأصدقاؤنا وأحبابنا هم أريكة القلب التى تسكن فوق سطح القمر، وما بين الأرض والقمر فضاء يرسم مسارات العمر كخريطة الأفلاك، وبالصديق نقتدى فنهتدى، كأنه البوصلة والمصباح معاً، ومن الناس من نعض عليهم بالنواجذ كحقائق الإيمان، ومنهم من ينسرب كالماء بين الأصابع.
والصاحب الحق هو صاحب السفر، زاد الطريق الطويل، تتبادلان الظل والجسد فى رحلة الحياة، كأنك هو وكأنه أنت، من هذا النوع النادر والفريد عرفت اثنين؛ الأول كان رجلاً عالماً، أعطى عصارة عمره للعلم، والثقافة والإبداع والترجمة، إذا رأيته تهيبت الاقتراب، وإذا اقتربت احتواك فى كنف الأبوة، وإن دنوت فأنت قطرة فى محيطه، ومع كل ذلك يعطيك شرف الندية، وكفاءة الصحبة، فى بداية تعرفى عليه سهرت معه نتبادل الرأى والحوار، وفى نهاية اللقاء أهدانى كتابه الأخير عن ثورة اليوجينيا (الهندسة الوراثية)، وحينما قرأت إهداءه المكتوب أخذتنى الصاعقة، لقد كتب لى: إلى أستاذى (فلان)!!، وحينما استفسرت منه عن العبارة، كان رده حكمة بالغة، بعد أن ضحك بحنان رقيق ومدهش: (ألم أسمع منك أشياء لم أعرفها؟ إذن أنت أستاذى فيما لا أعرفه وأنا أستاذك فيما لا تعرفه.. يا صديقى العزيز كلنا أساتذة بعض فى هذه الحياة).. وكان العالم الكبير مهموماً بالعلم والوطن والإنسان كمنظومة واحدة، وتعددت معارفه ومواقفه، حتى أصبح رمزاً موسوعياً تفتخر به مصر العقل والوجدان والبشر، ويبدو أن المفتاح الرئيسى لكل الشخصيات العظيمة هو محبة الفقراء والعمل من أجلهم، فلا أنسى فرحته الطفولية إثر كل كشف علمى يصب فى صالح المواطن الفقير، عندما أيقظنى من النوم ليحكى لى عن تجربة زراعة الأرز فى البحيرة المالحة بالفيوم وحينما طرحت أعواد الذرة فى مزرعة الكلية بخمسة كيزان، وتجاربه فى الإنتاج الحيوانى باستخدام الجينات لزيادة إدرار اللبن فى الجاموس وزيادة اللحوم، ورغم انشغاله بالعلم والترجمة فقد كان محارباً شرساً للفساد وذوى السلطان، وفى غمرة الحرب الصهيونية القذرة على بيروت وجنوب لبنان 2006. عاش الرجل المعركة بكل حواسه وخلاياه، ومثلما كان دائم الاندهاش فى حياته اليومية، كأى عالم كبير، جعلته هذه الحرب الخسيسة فى حالة تعجب واستنكار صارخ، حينما رأى أطنان القنابل والصواريخ تدك الضاحية الجنوبية، وظل يكرر: «مش ممكن، مش معقول»، إلى أن انفجر المخ الذى طالما أهدانا سبل الطريق.. إنه العالم الراحل الكبير أحمد مستجير.
وتتعدد النجوم المصابيح فى سماء أفلاكى، لأصل إلى بوصلة سجادة القلب، العالم النحرير، سماعة الفقراء، وسر أكبادهم، وشماعة الهموم، وشاطئ البوح الجميل، برع فى زراعة الأعضاء، فمال الكبد إليه، فصوصاً ودماً وشرياناً وأبحاثاً، أسس وبنى صروحاً طبية وعلاجية لرأب صدع الغلابة، الجراحة عنده ليست مجرد مشرط وخيط وأصابع، بل كشف الظاهر والباطن وقراءة عميقة للعلة والمعلول، وتقديس كامل لقسم أبوقراط، يحمل فى حدقات عيونه اللامعة عبء المريض والمرض فى السياسة والصحة والمجتمع، يرى فى الثورة دواء ناجعاً لداء المواطن والوطن، لذلك تتعدد نشاطاته واهتماماته، مكانه محجوز دائماً فى مقدمة صفوف دافعى الضريبة وأصحاب الرسالة، تجده فى بورسعيد طبيب الحرب وضمادة المقاتلين فى الحروب مع العدو، وفى ميدان التحرير معالجاً لجرحى الثورة ووزيراً لصحتها، شهدت الوزارة على يديه أكبر نقلة نوعية فى تطوير المنظومة الصحية، وتثبيت أركان العلاج المجانى بعد أن انهارت ثوابته.
لكن أعداء الفقراء من سدنة الحكم الانتقالى ومافيا الدواء كانا له بالمرصاد فخرج من الوزراء ليستكمل دوره وعطاءه فى مشروعه الطبى الاجتماعى ومدرسته الجراحية وينخرط فى المشهد السياسى العام كأحد أهم الرموز التى تؤدى فريضة حب الوطن كما تؤدى فريضة الصلاة، وإلى جانب ذلك يكتب ويبدع ويسافر باحثاً عن العلم فى كل بقاع العالم، وربما تجده فى نهاية يوم طويل يتناول وجبته الوحيدة عند محروس فى جاردن سيتى أو بلية فى الخليفة أو نملة فى بولاق أبوالعلا، نعم هو العالم الكبير والإنسان النبيل عمرو حلمى.
وأرجو أن يعى القارئ الكريم، لماذا لم أتحدث عن الشأن الجارى وكوارث الإخوان حزباً وقصراً وإرشاداً، ذلك لأننى مثلكم تماماً قد احتوتنى كآبة المنظر السياسى والرئاسى والكوارثى، بعد أسبوع مشحون بالمآسى، فآثرت استدعاء نماذجنا المصرية الكبيرة فى عطائها، ربما لنواجه بها هؤلاء الذين قرنوا السلطة بالتسلط والحكم بالتحكم، وجردوا الدولة من مناعتها وأراقوا وجه شعبها فى سبعة أشهر، والمؤكد أن مصر تمتلك من رصيد العقول والقلوب ما يجعلها قادرة على استعادة مركب الوطن من خاطفيه.