حققنا بعض الإنجازات بعد مرور عامين من الثورة، فالشعب امتلك حريته بعد عقود من الاستبداد، وشبابنا صار أكثر وعياً ورفضاً للقهر، وصارت لدينا مؤسسات منتخبة لأول مرة فى تاريخنا، وسقطت بعض الخرافات التى تحكمت بعقولنا لعقود طويلة.
لكن لا يزال الطريق طويلاً، فالناس تتضرر من الحرية غير المسئولة، والمؤسسات المنتخبة لم تغير كثيراً من السياسات القديمة ولم تخفف المعاناة الاقتصادية، والشباب لا يزال متمرداً ولم يطور طرقاً جديدة للمشاركة والبناء، وهناك مخاطر أخرى داخلية وخارجية.
الدستور سيساعد فى بعض الأمور لكنه ليس إلا أداة واحدة، فالشعور بالتغيير الاجتماعى والسياسى يعتمد على إنجاز تغيير حقيقى فى منظومة القيم الاجتماعية والثقافية والسياسية السائدة والمحركة لسلوك الناس. وتغيير هذه المنظومة يحتاج لوقت ممتد، وإلى ثورة فكرية تكون القوانين والمؤسسات السياسية إحدى قنوات هذه الثورة الفكرية، بجانب قنوات أخرى مهمة للغاية كالتعليم والإعلام والمجتمع المدنى وغيرها.
كانت لدينا منظومة قيمية سلبية تعتمد على عقلية بها الكثير من الأمراض: ترتبط بالماضى أكثر من المستقبل، وتألف التقليد والمحاكاة بدلاً من الإبداع والتجديد، وتعتمد على الارتجالية والعشوائية بدلاً من التفكير العلمى والتخطيط السليم، عقلية تسيطر عليها نظرية المؤامرة والتابوهات، وتقدس الرؤساء وكبار السن ولا تثق فى الشباب. وعلى أساس هذه المنظومة أصبح المجتمع ساحة لصراعات مختلفة يسعى كل طرف (فرد أو جماعة) لتحقيق مصالحه الضيقة دون إدراكٍ للمصلحة العامة أو احترام للأخلاق العامة والقانون، وتحولنا جميعاً لمجموعات متعصبة وقبلية (فى التفكير)، وصارت لدينا أزمة هُوية حادة وضَعُفَ انتماؤنا الوطنى.
وحتى تحقق الثورة أهدافها ويشعر الناس بها لا بد من تغيير هذه المنظومة القيمية وبناء هُوية جامعة تزرع فينا قيم التمسك بأسس هُويتنا الوطنية دون تعصب، وتحفزنا على التفكير بالمستقبل والتجديد والإبداع فى شئون دنيانا ونبذ العشوائية والارتجالية واعتماد طرق التفكير العلمى والنقد والتخطيط.
وهذه المنظومة القيمية الجديدة تبدأ من أكثر القطاعات تأثيراً: التعليم والإعلام والجهاز الإدارى للدولة. نريد منظومة قيمية فى التعليم حتى تعود مدارسنا وجامعاتنا مصدراً للمعرفة وأداة للتربية وسبيلاً للنهوض، وحتى يظهر لدينا معلم وأستاذ جامعى، قدوةً للطلاب، ومحفزاً على الاجتهاد والتطوير، وحريصاً على تنمية وتطوير عقول طلابه ومساعدتهم على اكتساب مهارات التحليل والنقد بدلاً من التلقين والحفظ وتقديس رأى الكبير.
نريد منظومة قيمية جديدة فى الإعلام والصحافة، حتى يكون لدينا مؤسسات تنويرية حقيقية، وحتى يلتزم الصحفى بأخلاقيات المهنة ويحترم عقلية القراء ويحرص على مصالح الوطن بدلاً من السعى وراء السبق والإثارة وزرع الفتن وإعادة إنتاج ممارسات النظام القديم بأشكال جديدة.
نريد منظومة قيمية جديدة بالجهاز الإدارى حتى يظهر موظفون عموميون يتخلون عن ممارسات النظام القديم شكلاً وموضوعاً، فيراعون المصلحة العامة، ويؤدون الخدمة العامة لكل المصريين دون تمييز أو استغلال للنفوذ، وينبذون الكذب والنفاق والتضليل والتسلق وتقديس الرؤساء والمسئولين.
هذه الأمور مكتسبة ولا تولد مع الإنسان، ولهذا فهى تحتاج إلى فلسفة واضحة ورؤية محددة واستراتيجيات فعالة للتطبيق من القادة والمسئولين فى كل قطاع ومن كل قادر على المساهمة. حان الوقت لتوزيع المهام وتفويض الكفاءات والعمل فى مسارات متعددة.