«ماتت أمى ومات معها كل شىء».. عبارة بديعة غنية بالمعانى كتبها تلميذ سيناوى اسمه أسامة أحمد حماد، قصته التى حكاها موقع «المصرى اليوم»، وتداولتها مواقع عديدة أخرى يمكن أن نضع لها عنوان: «إنسان يعرف معنى الحياة»، فمن يعرف معنى الموت هو الأقدر على فهم معنى الحياة، ومن العجيب أن يكون طفلاً بكل هذا القدر من الحكمة، ولكن كم من عجائب يصنعها الناس فى بلادى.
العبارة التى قدمها هذا الطفل، ليصف بها مشاعره نحو أمه التى توفاها الله بعد صراع مع المرض تعكس إدراكاً عميقاً لمعنى فقد الأم، خصوصاً لدى طفل يشعر بأن مظلة الحماية والرعاية والركن الركين الذى يستند إليه اهتز وأصبح ظهره إلى العراء. من الطبيعى أن يحزن، وأن يكون إحساسه بالحزن عميقاً، لكنه حزن نبيل، لا يؤدى بصاحبه إلى تعطيل الحياة، بل يدفعه إلى محاولة العيش ليدافع عن حياة من يحتاجون إليه، حتى ولو كان طفلاً فى الحادية عشرة من عمره. كذلك صنع الحزن النبيل بـ«أسامة» فله أخ أصغر، وأب قعيد عاجز عن العمل، وكلاهما يحتاج إلى رعايته، فنزل إلى العمل وسط حقول الزيتون فى سيناء، ليحصل على يومية 10 جنيهات، ينفق منها على من يحتاجون إلى معونته، إنه يفهم معنى الحياة بعمق وأنها تعنى ببساطة الدفاع عن حياة الآخرين وحمايتها، حتى لو كان على حساب من يدافع عنها.
لأمثال أسامة خُلقت الحياة، وأمثال «أسامة» هم من يضفون المعنى على الحياة. وأكاد أجزم أن هناك نماذج أخرى لأسامة فى هذا البلد، يمتلكون هذه الحكمة العميقة فى فهم الحياة، حتى ولو لم يعبروا عنها بالبراعة التى عبر بها أسامة، هؤلاء هم ملح أرض المحروسة، والأعمدة التى استطاعت حملها رغم ما أصاب بنيانها من شروخ. تأمل داخل بعض المؤسسات، وستجد أن العمل فيها يرتكن على أكتاف شخص أو أكثر يعمل ويكد ويدافع عن وجود هذه المؤسسة دون أن يشكو من الكثرة التى تتعيش على جهده. تأمل بعض العائلات، ربما وجدت فيها نموذجاً آخر لأسامة يرتكن عليه كل أفرادها، دون انتظار شكر من أحد، لأنه يفهم تلك الحكمة العميقة فى الدفاع عن الحياة.
محافظ سيناء بحث عن «أسامة» كى يكرمه على عبارته البليغة التى كانت البدء والمختتم فى موضوع التعبير الذى كتبه فى امتحان اللغة العربية، لكنه لم يجده، لأن أسامة ساعتها كان يكد فى حقول الزيتون، ليحصد الجنيهات العشرة فى نهاية اليوم، ودعا الأزهر إلى كفالة الطفل ومد يد العون له، وتقديرى أن الطفل الحكيم لا يحتاج معونة من أحد. من يحتاجون إلى الرعاية فعلاً أشخاص آخرون غير هذا الطفل، سينجح «أسامة» فى حياته دون مساندة من أحد، دون تكريم من محافظ، أو احتفاء من أجهزة إعلام، أو عطاء يمنحه له أحد. نجاح أمثال «أسامة» حتمى، لأنهم يفهمون معنى الحياة، ولأن الحياة ببساطة ترتكن على هؤلاء. تقديرى أن من فكروا فى أن يمدوا يد المساعدة إلى هذا الطفل أشد حاجة إلى مساعدته..!.