العشوائيات فى مصر مشكلة معقدة.. من تابع ردود أفعال أهالى «تل العقارب»، خلال، وبعد إجلائهم، عن تلك المنطقة القريبة من حى السيدة زينب يمكنه أن يدرك ذلك. اتجاه الدولة إلى القضاء على العشوائيات أمر إيجابى، فهذه المناطق فى أشد الحاجة إلى التطوير وإعادة الهيكلة، لكن ثمة سؤالاً يفرض نفسه: لماذا تواجه محاولات تطوير أى من المناطق العشوائية بقدر لا بأس به من المقاومة من جانب الأهالى؟ فى تقديرى أن هناك ثلاثة أسباب لذلك.
السبب الأول أن العشوائيات بالنسبة للكثير من أهلها ليست مجرد مأوى أو مكان للسكن، بل هى مجال اقتصادى، ففيها مصدر الرزق، بالنسبة لمن يعيش فيها. كثير من سكان منطقة تل العقارب على سبيل المثال من الحرفيين، الذين يعتمدون على ورش صغيرة، يتمددون منها إلى المساحات المحيطة بهم فى ظل واقع عشوائى، وبالتالى، فخروجهم من هذه الأماكن لا يعنى فقط مجرد تبديل مكان سكن بآخر، بل يعنى انقطاعاً للرزق. هذا جوهر ما يفكر فيه المواطن، وهو تفكير يتناقض مع الحكومة التى ترى أن من واجبها أن إعادة هيكلة هذه الأماكن، وترقيتها وتنظيمها بشكل يضمن حق المواطن وحق الدولة، وهى أمور لا خلاف عليها، لكنها تجابه بأزمة أخرى يتحلّق حولها السبب الثانى لهذه المشكلة المعقدة.
السبب الثانى يتعلق بضعف ثقة المواطن فى الحكومة، فهناك إحساس لدى أهالى المناطق العشوائية أن الحكومة تريد إجلاءهم عن مواقعهم، ليس من أجل تطويرها، ثم إعادتهم إليها، بل من أجل استثمارها. وللإنصاف، فأزمة الثقة بين الحكومة والمواطن ليس مردها أداء الحكومة الحالية، بل هى أزمة تراكمت عبر عقود طويلة تعاقبت على مصر فيها حكومات عديدة. ويضاعف من تأثير هذه المشكلة الخطاب الذى تتناول به الحكومة سكان العشوائيات والذى يولد لديهم شعوراً بأنهم مواطنون أدنى درجة من غيرهم، وهو أمر يغريهم بالرفض والمقاومة. ليس ذلك هو خطاب الحكومة وحدها، بل أيضاً خطاب قطاع من الثوريين الذين يحذرون باستمرار من غضبة العشوائيين، فى مدار حديثهم عن تأثير الضغوط المعيشية على استقرار الدولة والمجتمع. وهو خطاب استعلائى يضر أكثر مما ينفع، سواء جاء على لسان الحكومة، أو على لسان غيرها!.
السبب الثالث أعجب من السببين السابقين، وربما كان من المفيد أن نفكر فيه بعض الشىء، ويتعلق بأن «العشوائية» فى مصر حالة، بعبارة أوضح «العشوائية» فى مصر حالة دفء وتواصل وقرب يرى فيها الكثيرون نوعاً من المتعة، بل يعتبرون أن الحياة فى هذه الأماكن هى الحياة الحقيقية. انظر إلى أى شخص يعيش فى أى من الأحياء الجديدة الراقية المخططة، وهو يتحدث عن مسقط رأسه فى السيدة زينب أو شبرا أو بولاق، ستجده يتحدث بما يشبه لغة العاشقين الذين أضناهم الشوق، ويستغرق فى كلام لا ينتهى عن جماليات هذه الأماكن، وهو أمر لا بد أن تتفهمه الحكومة وهى تواجه هذه المشكلة مع موضوع «الرزق وضعف الثقة».. هل تذكر فيلم «عسل أسود»، وأغنية «فيها حاجة حلوة»؟.. تقديرى أن «الحاجة الحلوة» تلك ترتبط -وياللعجب- بـ«العشوائية»..!.