من الذى لم يسمع عن «الكرم»؟! إنها تلك القرية الصغيرة التى تتبع مركز أبوقرقاص بمحافظة المنيا.. إنها قرية هادئة مسالمة.. يسكنها أطيب من يمكنك أن تراهم من بشر.. إنها من القرى التى نجت لسبب مجهول من ذلك الصخب الحضارى الذى أصاب العديد من قرى الريف المصرى فى الأعوام الأخيرة.. فلن تجد فيها تلك المحال التجارية التى تبيع الهواتف المحمولة صينية الصنع.. ولن تجد الكتل الأسمنتية قد احتلت المساحات الخضراء.. باختصار إنها قرية مصرية جميلة.. لم تتحول بعد إلى مسخ مدنى، فقد كل براءة الريف الفطرية.. ما زالت قرية صغيرة هادئة.. يعرف أهلها بعضهم جيداً.. حتى إنك قد تتخيل أنها قرية مهجورة إذا سرت فى طرقاتها بعد صلاة العشاء!
أعرف تلك القرية جيداً بحكم انتمائى لهذه المحافظة الصعيدية.. كما أعرف أهلها جيداً!
أعرف أن الشغف قد ازداد لتعرف لماذا أتحدث عن تلك القرية التى يبدو من وصفى لها أنه لا يحدث فيها شىء تقريباً.. إنها كذلك بالفعل.. إلا فى المرات التى يظهر فيها ذلك الشيطان اللعين الذى يوقظ الفتنة!! ألا لعنه الله ولعنها!
الأمر يعود إلى أيام قليلة ماضية.. حين انتشرت شائعة مغرضة قذرة حول علاقة أحدهم بزوجة آخر! لم يتوصل أحد إلى صحة تلك الشائعة أبداً.. ولن يفعلوا.. ولكنها شائعة كافية لتجعل الدماء تغلى فى العروق.. وليبدأ صراع قاسٍ بين طرفين قد يطول.. إنه السيناريو الذى يتوقعه الجميع فى أى أمر يتعلق بالشرف أو العرض.. ولكن حين تعرف أن الطرفين أحدهما مسيحى، والآخر مسلم.. فلتعرف عزيزى القارئ أن الصورة قد اختلفت تماماً!!
لقد تحول الأمر من صراع على الشرف -بصرف النظر عن المذنب أو المخطئ- إلى حرب صغيرة.. فرأينا ذلك المشهد الذى سئمنا منه.. مجموعة من الرجال يتحركون كجيش صغير ليضرموا النيران فى منازل جيرانهم المسيحيين فى القرية الذين لا ذنب لهم بالمرة.. بل إنهم قد لا يعرفون ذلك الشاب المتهم أو حتى قد يكونون على خلاف معه! حتى وصلوا إلى المنزل الذى تقطن فيه والدة الشاب المسيحى المتهم.. فتخرج أمه التى لا ذنب لها فى الأمر برمته هرباً من الموت حرقاً.. وهنا تحدث الفجيعة.. فبدلاً من أن يغطيها الناس.. التفوا حولها بوحشية غير مسبوقة.. وقاموا بتعريتها.. بل تعريتنا جميعاً!
يبدو أن الزمن يثبت لنا فى كل مرة أن الرمال لم تطفئ جذوة نيران الفتنة الطائفية المشتعلة تحتها.. لقد أخفتها دون أن تسيطر عليها.. فما هى إلا رياح خفيفة تزيح الرمال، لتشتعل النار ثانية وتلتهم كل شىء!
لم يكن المعتدون مسلمين بالمرة.. ولم تكن المرأة مسيحية كما يدعون.. لقد كانوا إرهابيين.. وكانت مصرية!
الطريف أن المسئولين كالمعتاد حاولوا إخفاء الأمر.. فوجدنا ذلك التكذيب المبدئى فى بيانات وزارة الداخلية.. ونفى الأمر برمته دون حتى محاولة التأكد منه.. وعندما فشلوا بعد انتشار الأمر لجأوا إلى خطتهم البديلة.. وهو التهوين من الصورة.. وبأن الحادث ليس كما تظنون!!
ربما كان البيان الرئاسى هو ما أحرجهم جميعاً فى النهاية.. وأخرس الألسنة التى تحاول إخفاء الأمر ليظل «كل شىء تمام يا فندم» ظناً منهم أن هذا هو ما سيحفظ لهم مناصبهم.. ولكن إلى متى سنظل فى انتظار ردود أفعال الرئاسة بدلاً من المسئولين؟!
القصة كلها بشعة بكل المقاييس.. وتؤكد أن داعش ليست جماعة فحسب.. إنها فكرة تنتظر الفرصة لتخرج من عقول الكثيرين -مسلمين ومسيحيين- لتفتك بالجميع.. فكرة ساعد على انتشارها غياب القانون وبمعنى أدق غياب تطبيقه.. فمن فعلها يعرف جيداً أن الأمر سينتهى بذلك الشيخ، وهذا القسيس اللذين يجلسان جنباً إلى جنب فى مجلس عرفى.. وأن تصريحات من نوعية أننا نسيج واحد ستملأ الصحف فى النهاية.. ليفلت بفعلته بكل بساطة!
عزيزتى سيدة الكرم.. عذراً يا أماه.. نحن من تعرينا فى جسدك.. نحن من صرخنا بصوتك.. فلتقبلى اعتذارى، واعتذارنا جميعاً..
فلتحاسبوا الجناة بكل حزم وقوة.. ولتحاسبوا المسئول الذى حاول التستر عليهم، ودفن الرؤوس فى الرمال للمحافظة على منصبه! فمواجهة الحقيقة والتعامل معها هو أفضل ما يمكن عمله لإصلاح الأوضاع.. إن كنا نبغى إصلاحاً!