الإمام الدمنهورى، شخصية مصرية أزهرية مهمة، بدأ حياته العلمية فى الأزهر، يتلقى العلوم الأزهرية المعتادة، من الفقه والبلاغة وأصول الفقه وعلوم التفسير والحديث وغير ذلك، لكن مواهبه المتألقة امتدت إلى دراسة الحساب والجبر والمقابلة، وعلم وضع المزاول، وأسباب الأمراض، وعلم الفلك والهيئة، وعلم الأسطرلاب، وأشكال التأسيس فى الهندسة، وعلم المساحة، وتتلمذ فى هذه العلوم لعدد من العلماء الأزهريين المتصدرين لتدريسها فى الأزهر، واجتهد فى الدراسة والتحصيل العلمى، حتى تخرج، واشتغل بالتأليف والتدريس، وما زال يترقى حتى تولى مشيخة الأزهر، وتوفى سنة 1192هـ، الموافق سنة 1778م.
وبجوار مؤلفاته الكثيرة فى العلوم الشرعية ترك لنا أيضاً مؤلفات كثيرة، يمكن أن تندرج تحت عدد من العلوم التطبيقية، حتى صار، رحمه الله، نموذجاً أزهرياً جليلاً يذكرنا بالعباقرة من علماء الإسلام، الذين أسهموا فى الجبر والمقابلة، وطب العيون، والطب النفسى، والوزن النوعى، وعلوم الحيوان والنبات، وعلوم الحساب والمعادلات المثلثية، والجاذبية الأرضية، وعلوم الأجنة والعقاقير، وعلوم النجوم والبيئة، وعلوم الهندسة التحليلية، وجراحة العيون، وعلوم الأورام، وموسوعات الصيدلة، وعلوم الصوتيات، وعلوم الأوبئة، وعلوم الكسور الاعتيادية واللوغاريتمات، وغير ذلك من علوم الحضارة، وقد ألف الأستاذ سليمان فياض كتاباً جيداً اسمه: (عمالقة العلوم التطبيقية، وإنجازاتهم العلمية فى الحضارة الإسلامية)، ذكر فيه نماذج من إبداع علماء المسلمين فى كل مجال من المجالات المذكورة.
وقد كان رفاعة الطهطاوى شديد الإعجاب بشخصية الإمام الدمنهورى هذه، وله عنه حديث مطول فى كتابه (مناهج الألباب المصرية، فى مباهج الآداب العصرية) قال فى آخره: (فانظر إلى هذا الإمام، الذى كان شيخ مشايخ الجامع الأزهر، وكان له فى العلوم الطبية والرياضية وعلم الهيئة الحظ الأوفر، مما تلقاه عن أشياخه الأعلام، فضلاً عن كون أشياخه أزهرية، ولم يفتهم الوقوف على حقائق هذه العلوم النافعة فى الوطنية).
وقد نظم المجلس الأعلى للثقافة فى شهر نوفمبر سنة 2007م، ندوة دولية مهمة، حول (مصر فى العصر العثمانى)، شارك فيها أكثر من سبعين من المتخصصين فى الدراسات العثمانية، من اثنتى عشرة دولة، وكان من المشاركين فيها الأستاذ الدكتور صبرى أحمد العدل، حيث تقدم بورقة بحثية مهمة عنوانها: (موقف علماء الأزهر من دراسة العلوم العقلية والتطبيقية فى العصر العثمانى)، قال فيها: (ويرى العديد ممن أرخوا لتاريخ الأزهر والحركة العلمية خلال العصر العثمانى أن الشيخ الدمنهورى يشكل طليعة التيار التجديدى فى الأزهر، ويدللون على ذلك بتصديه للكتابة فى العلوم العقلية والتطبيقية، بالإضافة إلى اهتمامه الرئيسى بالكتابة فى العلوم النقلية)، وكنت شخصياً قد سعدت بالاتصال بالدكتور صبرى، وطلبت منه نسخة بحثه وأعمال المؤتمر، وكان هذا قبل نحو ست سنوات تقريباً.
وأذكر أننى كنت مرة مع العبقرى الدكتور أحمد زويل، فذكر لى أن مما قاله فى كلمته أثناء احتفال تسلمه لجائزة نوبل: (إننى أتسلم اليوم هذه الجائزة، ولو رجعنا فى الزمان قليلاً لوجدنا عشرات من علماء العرب والمسلمين الذين يستحقونها). وأقول تعقيباً على ذلك كله: إن شخصية الإمام الدمنهورى شخصية مصرية من بين آلاف مؤلفة من الشخصيات المصرية العبقرية الفائقة، وكم فى دراسة هذه الشخصيات من فوائد هائلة فى رفع الهمة، واتساع الأفق، وتجدد الأمل، والثقة فى الذات والوطن، إن العملية التعليمية عندنا فى مصر ينبغى إعادة ترتيبها بحيث تقوم على الإبداع والاستنتاج والتحليل والاستنباط وصناعة العقول، واكتشاف المواهب، والشغف بالعمران، وإكرام الحياة بمختلف صورها، وتكريم الإنسان وتقديره، وصناعة الحضارة، والاعتزاز بالذات، بل الثقة العالية فى الذات، والقدرة على الانفتاح على العالم والتواصل والاشتباك الفكرى والفلسفى والمعرفى معه، وإن الكتابة عن هذه الشخصيات المصرية يمثل واجباً قومياً ووطنياً من الدرجة الأولى، ليكتشف الإنسان المصرى ذاته من جديد، وليستعيد ذاكرته المهملة من جديد، وليدرك مقدار ما حفره هذا الإنسان المصرى عبر امتداده التاريخى فى ذاكرة الوطن وذاكرة الحضارة من جهود تستحق كل الإشادة والفخر، إننى شديد الاعتداد بمصر، غارق فى دراسة ملامح العبقرية والجلال فى رجالها وعباقرتها وعلمائها ومفكريها، وكلما أمعنت فى ذلك ازددت شهوداً لعبقرية هذه الأرض الطيبة أرض مصر، وأنها ستبقى بإذن الله إلى يوم القيامة مرفوعة الرأس، عزيزة الجناب، منبع علم وحضارة.