جعل الإسلام الزكاة ركناً أصيلاً من أركان الدين، واعتبر الصدقات مفتاحاً من مفاتيح دخول الجنة، والهدف الواضح من الزكاة والصدقات (ويجمعهما مصطلح الإنفاق) تأكيد مبدأ التكافل بين البشر، بأن يعطف غنيهم على فقيرهم، ويميل مَن معه على مَن لا يملك، حتى تسود المحبة والسلام، وتزول الأحقاد والضغائن فيما بينهم. وقد وضع الإسلام مبدأين أساسيين لمن يُعطى ولمن يأخذ. ففرض على مَن ينفق أن يبتغى وجه الله تعالى فيما يعطيه، ونهى عن الرياء فى الإنفاق: «وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا»، وفرض مبدأ التعفف على مَن يأخذ ويمد يده: «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا». احتفى القرآن الكريم بمن ينفق أمواله ويتصدق بها على مَن يحتاج إليها، لكنه فى الوقت نفسه لم يجعل من الإنفاق أداة يمكن الاعتماد عليها إلى ما لا نهاية، بل اعتبرها وسيلة من وسائل مساعدة مَن تضطره الظروف إلى أن يمد يده، حتى يصلح الله أحواله ويتحول من الأخذ إلى العطاء، ولم يجعل الزكاة عملاً مؤسسياً، بل نظر إليها كشكل من أشكال العبادة الفردية، شأنها فى ذلك شأن الصلاة والصيام والحج، وهى أمور يحاسب الإنسان عليها أمام ربه، وليس أمام إنسان أو جماعة أو سلطة.
اهتزت هذه الحقيقة بعض الشىء فى حروب الردة التى خاضها الخليفة أبوبكر الصديق -رضى الله عنه- ضد مدعى النبوة ومانعى الزكاة، وظنى أن هذه الحروب توجهت بالأساس إلى مَن ادعى النبوة، وطعن فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وفى الإسلام والمسلمين، لأن مسألة الزكاة وجمع الزكاة ليست عملاً من أعمال الدولة أو الحاكم، بل هى عمل فردى، كما ذكرت، لكن فى كل الأحوال نستطيع أن نقول إن المصريين عرفوا موضوع الصدقات حين فتح العرب مصر. ومن لحظتها استغرق بعضهم فيه، وبدأ يتمدد من فرد إلى فرد، ومن مجموعة إلى مجموعة، مدفوعين فى ذلك برغبة بعضهم فى الكسب المريح، وحاجة بعضهم فعلياً إلى المساعدة، ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى، كان لتلك الخاصية التى تميز النفس المصرية من عاطفية وعطف على الآخرين، وميل إلى فكرة التكافل دور مهم فى تحول أمر الحصول على الصدقات إلى ظاهرة قديمة متجددة.
فمنذ العصر الفاطمى، وظاهرة التسول وجمع الصدقات واحدة من الظواهر المؤكدة فى ديار المحروسة والتى رسخت مع مرور السنين والأيام، وتذكر كتب التراث أن الحكم الفاطمى كان يفرض ضرائب على المتسولين، بعد أن تحول بعضهم إلى أباطرة يجمعون أموالاً غزيرة من اتجاهات عدة، ليس ذلك وفقط، بل بدأت الدولة تدخل هى الأخرى كشريك فى المسألة، وأصبح «دفع المعلوم» جزءاً من مجالس الدعوة التى اجتهد شيوخ الشيعة من خلالها فى تعليم المصريين أصول مذهبهم، وكلمة «المعلوم» فى الثقافة الشعبية المصرية لها دلالات عديدة، من بينها «الضريبة»، و«الفِردة»، و«الصدقة» التى يدفعها الأغنياء للفقراء. فهى مفردة جامعة لأى نوع من المال يتم جمعه بالضغط على الآخرين، أياً كان نوع هذا الضغط. وتتوافق هذه المفردة، مع الوصف الذى خلعه القرآن الكريم على الصدقات، وذلك فى قوله تعالى: «وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ». زخم الماضى التحم مع ظروف الحاضر، ليجعل من التسول واحدة من الظواهر التى لفَّت المجتمع المصرى من كافة أنحائه، وحوَّلته إلى ما يشبه «دكان شحاتة»!.