أعتقد أنه لو كان «سيبويه» -فقيه قواعد الصرف والنحو- يدرك ما يجرى الآن لنا أو فينا -لا يهم- ما كان قد أنعم عليه بـ«الستر» أو «الغياب»، بل كان قد «كشفه» وأجبره على الحضور والمثول أمام الجميع ليلقى جزاءه..!
دائماً ما يكون غائباً.. ونكتفى نحن بتقديره «هو أو هم»، كما لو كنا قد أدينا كل ما علينا.. ولأنه الغائب الدائم فى كل كارثة تقع فلا يجب انتظار حضوره طواعية، بل إن البعض يصر على «ستره» أو إخفائه، وربما يكون -فى معظم الحالات- قد «مات» وشيّع البعض جنازته منذ زمن طويل..!!
منذ سنوات ليست بالقصيرة أعلن «انسلاخه» عن منظومة القيم الأخلاقية التى اعتدنا عليها سنوات طوالاً وتنازل طواعية عن مكانته ليحل محله «الغش والخداع».. وعلى الرغم من أن غيابه أصبح واضحاً تماماً أمام الجميع، فلا أحد يحاول حتى الكشف عنه سوى فى بعض امتحانات اللغة العربية للصف الإعدادى بالصدفة عندما يُطلب من الطالب إعراب ما تحته خط، فربما يكون هذا الخط قد لحق به..!
نماذج كثيرة تكشف إلى أى مدى اعتاد البعض على ألا يجهد نفسه بحثاً عن صاحب هذا الضمير «الغائب أو المستتر أو الراحل» لنحاسبه على أخطائه، بل إن الكارثة الأكبر هى أن البعض منا يسعى جاهداً إلى إخفائه أو ستره على الرغم من أن الآلاف من المواطنين البؤساء انضموا إلى طابور مرضى السرطان ضحايا المبيدات المسرطنة بسبب غيابه.. وأن عشرات الآلاف من الأبرياء أبدلوا مستشفى سرطان الأطفال بمنازلهم ومدارسهم.. ومئات المرضى راحوا ضحايا أكياس الدم الفاسدة.. وأن غيرهم من المرضى دفعوا حياتهم ثمناً لأطباء لم «يفق» ضميرهم من «المخدر.. إضافة إلى أن عشرات الضحايا سكنوا تحت أنقاض منازلهم نتيجة غياب ضمير مهندس أو مقاول.. أبرياء أصبح السجن» محلهم المختار بسبب ضابط أو محام غاب ضميره.. حقائق تاهت بين أوراق «صحفى» مرتش أو منافق.. آلاف سكنوا قاع البحر وتحولوا إلى وليمة لأسماكه، وهم عائدون من العمرة وغيرهم لحقوا بهم بعد أن كانوا يحلمون بحياة أفضل فى بلد المهجر.. وعشرات أخرى غرقت بهم «معديات» تجاوزت حمولتها.. عجلات قطار تحيل بشر إلى أشلاء.. و«تريللا» تضيف إلى أسفلت الطريق أجساداً بشرية.. نماذج كثيرة وجدت طريقها بسهولة لتصدمنا بسبب هذا الضمير «الغائب»..!
إذا كنا نعانى من هذه النماذج السيئة إلا أن ما يجرى فى امتحانات الثانوية العامة منذ سنوات يعد الأسوأ.. ولا أقصد ذلك السوء الذى يتوقف عند حد تسريب الأسئلة، فالأسوأ منه هو إقدام بعض أولياء الأمور على إخفاء الضمير وإسقاط الحلال والحرام.. الصدق والأمانة من منظومة تربيتهم لأبنائهم وإبدالها بتلقينهم أن الغش يعد «شطارة».. وأن الخداع «فهلوة».. وأن النجاح وتسجيل أعلى الدرجات هى «الرجاء والمُنى» بصرف النظر عن الوسيلة التى يتحقق بها فكل ذلك «جنبنا ميكيافيللى مشقة حساب وجوده».. وهكذا سنجد أنفسنا بعد سنوات قليلة أمام أجيال لا تعرف حتى كتابة حروف «الانتماء أو الصدق والأمانة» فما بالك بمعانيها..!
الانحلال الأخلاقى وموت الضمير لم يتوقف عند حدود الدنيا، بل تعداها إلى يوم الآخرة بدرجة دفعت البعض لتقديم «لحوم الحمير» على إحدى «موائد الرحمن» بمنطقة كرداسة فى هذا الشهر الكريم «وهو ما نشرته صحيفة الوطن فى عددها يوم الثلاثاء الماضى.. ولا أدرى أى منطق دفع هذا البعض إلى ابتغاء مرضاة الله بإطعام صائمين لحوم حمير أو أخرى فاسدة!!.. وهو ذات المنطق الذى قد يدفع البعض إلى اختلاس أو سرقة الأموال لأداء فريضة الحج.. وفى النهاية لا أجد سوى ضمير غائب.. «دى آخرتها يا سيبويه»..!!