وقفت مذهولا بمدى دقة الصنعة، إتقان آلاف السنين ورسالة الأقدمين.. أتجنبه فيتبعني، أغادره فيعود ليمثُلَ أمامي.. قد يعتقد البعض وكنت منهم أن ما هو إلا مجرد أثر من آثار المتحف، ولكنه من دون شك قد ترك في أبلغ الأثر.
مقررا الدخول، قاطعًا ميدان التحرير، متجها إلى ذلك المبنى الوردي المُطِل بحديقته على قلب الوطن "المتحف المصري"، وعبرت الأكمنة الأمنية الواحد تلو الآخر حتى شباك التذاكر، وحصلت على التذكرة وهممت بالدخول، ويتراوح سعر التذكرة للفرد بين 5 جنيهات للطلبة، و10 جنيهات لغيرهم.
وتمتد مجموعة المتحف الضخمة عبر الحقب المصرية المختلفة بداية من عصور ما قبل التاريخ، وحتى العصر الروماني، وتقترب المجموعة من نحو 150 ألف قطعة، ويقال إنك إذا قضيت دقيقة واحدة أمام كل قطعة أثرية فإنك ستحتاج لـ9 أشهر لإكمال جولة شاملة.
أما وقد كنت في جولة بعد جفوة، فقد قررت المرور سريعا على أقسام المتحف المختلفة منتهيا بالقناع الذهبي للملك توت عنخ آمون، منتهزا الفرصة للاطمئنان على لحيته الملكية.
وبدأت الجولة مع بدايات التاريخ المصري يسار باب الدخول، وبحلول منتصف الجولة وبالتحديد "صالة 14" كنت على لقاء مع تمثيل فريد من الجرانيت لمشهد مهيب.
تمثال لرمسيس الثالث - قاهر شعوب البحر - مرتديا التاج الأبيض مقدما قدمه اليسرى، وممسكا مفتاح الحياة بيده اليُمنى، يقف شامخا متوسطا تشكيلين من نفس الحجم لكل من الآلهين "حورس" و"ست" لما يبدو، وأنه وضع تتويج ومباركة من كليهما.
- الغريب في الأمر هو وجود كل من حورس وست معا في تكامل غريب، حيث عُرِف "ست" بكونه إلهًا ممثلًا بشكل عام للظلام والفوضى والشر، فيما يُعرَف حورس بكونه إلهًا ممثلًا للسماء والنظام والخير. كان لتكاملهم أمامي وقع الصدمة حيث تؤكد الأسطورة المصرية أن بينهما ما صنع الحداد.
وتبدأ الأسطورة بغيرة "ست" من أخيه "أوزوريس" رب الخير والخصب في عقيدة قدماء المصريين والمتزوج من ربة الأمومة "إيزيس" حيث يدبر "ست" مكيدة محكمة هدفها قتل أوزوريس، والاستيلاء على حكمه ومكانته، فيشرع في إقامة حفل للآلهة، ويصنع تابوتًا محكمًا من الذهب بحجم أوزوريس وحده، ويدعوا جميع الحاضرين إلى تجربته باعتباره هبة لصاحب الحجم المناسب، وما أن يرقد إوزوريس بالتابوت حتى يسرع "ست" بغلقه عليه ويلقيه في نهر النيل.
وتحزن إيزيس لما حدث حزنًا شديدًا وتقرر السعي في اقتفاء أثر أوزوريس حتى تستدِّل على مكانه، وتأتي بجسده لتحنيطه تكريمًا له، لتشاء إرادة الرب أن تحمل إيزيس من روح أوزوريس بذرة الثأر حورس، لتختبئ بأحراش الدلتا وتقوم على تربية حورس الطفل حتى يقوى ويشتد عوده، ويصبح قادرًا على الثأر لأبيه، وقد كان فاستطاع حورس أن يحفظ الوعد ويتخلص من شرور عمه "ست"؛ ليستحق عن ذلك لقب الإله المخلص ومُعيد الخير إلى العالم.
وبقي نظري معلقان بهذا الإعجاز الفني، والإبداع المعنوي متسائلًا عن المغزى من هذا التضاد الواضح، ما المقصود بتجسيد كهذا؟، ولا بد وأن تكون هنالك فكرة ما، فلسفة معينة، إلهام من رب العالمين.
وأكاد ألا أبرح مكاني لولا النداء المتكرر بغلق المتحف، فأمد يدي متلمسًا قبضة حورس وسط السكون التام مودعًا إياه إلى لقاء، راجيًا أن يتغمدني قبس من نور لأفهم، وأتراجع بضع خطوات وأهم بالخروج، أعبر بوابة المتحف متأملًا، وأنا أضع سماعات الأذن في حركة لا إرادية مستمعًا إلى بضع آيات من الذكر الحكيم لتدوي كالرعد..
"وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)"
لمتابعة أنشطة أخرى وجديدة ممكن تدخل على صفحة فريق "عيشها غير".