أنهتْ بريطانيا أسطورة الاتحاد الأوروبى.. أكثر التحالفات جاذبيّة على مرّ التاريخ.
قَرّرتْ بريطانيا أن تترك أوروبا لتواجِه مصيرها.. وأن تواجِه مصيرها هى الأخرى بمفردها.. فى لحظةٍ صادمةٍ وعاصِفة.
(1)
كان الاتحاد الأوروبى أهمّ الإنجازات الكبرى للحداثة الأوروبية.. بعد أن كانت الحرب العالمية الثانية أكبر مآسى «الحداثة» فى القارّة العجوز.
نجحتْ الوحدة الأوروبية فى أن تُلهم العالم لعقودٍ طويلة.. ونجحَ نموذج «الاتحاد الأوروبى» فى أن يُبهر العالم الثانى والعالم الثالث لسنواتٍ متلاحقة.. وباتتْ بروكسل -مقر الاتحاد- علامة جودة تاريخية فى كيفيّة أن تتحول «الجغرافيا» من عبء إلى إضافة.. ومن «خطر» إلى «فرصة».. ومن منبع للأزمات والحروب إلى أساس.. للنموّ والصعود.
كان التفكّك فى مناطق كثيرة حول العالم.. يواجهُه تمدّد وتوحّد فى أوروبا.. وكانت الانكسارات والإخفاقات فى الدولة الوطنيّة فى مساحات واسعة من المعمورة.. يُقابلها تكتّل قوى.. وبناء متين. كان المشهد مذهلاً بلا حدود.. إن الدول التى خاضتْ حروباً مفزعة.. نجحتْ فى أن تخوض وحدةً مبهرة.
(2)
لا شك أن كثيرين حول العالم كانوا ينظرون، فى حسدٍ، إلى صعود الاتحاد الأوروبى على هذا النحو.. كانت أوروبا تتوحّد.. والاتحاد السوفيتى يتفكك.. ثم كان الصعود يتوالى.. والعالم العربى يتمزّق.. كانت الأخبار السيئة تتوالى من عواصم كثيرة.. لكن عواصم أوروبا لم تكن تنتج غير الأخبار الجيدة باستمرار.
(3)
لقد تغيّر الوضع كثيراً.. وبدأ «خريف أوروبا».. المشكلات تتوالى.. أزمات اقتصادية بلا أفق.. أزمة بطالة تُضاف إليها أزمة المهاجرين.. أزمات هويةٍ وثقافةٍ، وأزمة حضارة تتراكم ملامحها لتُشكّل لوحةً قاتمة.
يتحدث بعض الإسبان عن تقسيم إسبانيا.. ويتعامل جماهير فريقى «برشلونة» و«ريال مدريد» باعتبار المدينتيْن عاصمتين لدولتيْن قادمتيْن.
ويتحدث الاسكتلنديون فى المملكة المتحدة عن تقسيم المملكة العظمى.. ويتحدث آخرون عن انقسامات تالية فى حال انفصال اسكتلندا.
(4)
.. ثم كانت صدمة قرار الشعب البريطانى بخروج بلادهم من الاتحاد الأوروبى.. وهى الصدمة التى ظهرت آثارها الأولى فى انهيار بعض مؤشرات الاقتصاد البريطانى على نحو غير مسبوق. ولقد تمدّدت آثار الصدمة لتحيط بكل عواصم الاتحاد الذى كان.. والذى قد لا يكون.
(5)
إنها أزمة «الحداثة والسياسة».. إنه انتصار «ما بعد الحداثة».. انتصار «النسبية» و«التعدُّدية المُفرِطة».. انتصار «الاستقلاليّة المتطرّفة» و«النقد الدائم».. وتأطير «السّخط» و«عدم الرضا». وليس غريباً أن يعلن ساسة اسكتلندا الرغبة فى الانفصال عن بريطانيا.. بعد أن انفصلتْ بريطانيا عن أوروبا.
ليس غريباً أيضاً.. أن يتحدث ساسة فى أيرلندا الشمالية عن إحياء أفكار انفصالية قديمة.. وأن يدعو اليمين الأوروبى فى فرنسا والنمسا وهولندا إلى الاستفتاء من أجل الانفصال عن الاتحاد الأوروبى.
الأمر -فى تقديرى- ليس فقط.. تعبيراً عن سياسة أو اقتصاد.. ولكنه أيضاً تعبير عن فكر وفلسفة.. عن مدرسة فكرية باتتْ تحرز نجاحاً مذهلاً فى مواجهة مدرسة فكرية سائدة.
إن «ترامب» ما بعد الحداثى.. امتدح القرار «ما بعد الحداثى» للشعب البريطانى.. كما أن أنصار التفكيكية فى أوروبا.. ارتفعت أصواتهم لتصبح صدى أعلى من صوت «ترامب» وصوت الاستفتاء البريطانى.
إن أوروبا فى خطر.. والانتقال من «الحداثة» إلى «ما بعد الحداثة».. قد يكون الانتقال من «أوروبا» إلى «ما بعد أوروبا».
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر