الصورة الذهنية المألوفة لدى المتفرج العربى عن الممثل البدين (أو التخين)، من «فتلة» إلى «علاء ولى الدين» رحمه الله، أنه «دبدوب»، مضحك بطبعه وطبيعته (بعضهم يتحول أحياناً إلى أضحوكة).. من ثم ليس لديه اختيار آخر!. هو محكوم بحتمية أن يكون «مضحكاً» حتى فى أشد المواقف التمثيلية تراجيدية، وإلا فقدَ شرط مصداقيته الأساسى. عندما يبكى مثلاً لا بد أن يترجرج بنيانه الجسدى (من دون أن تكون له سيطرة على مركز الهزة التى زلزلته، كونها أتت من خارجه كممثل.. أى من القاعة). وفى الموقف الرومانسى يفوز أحياناً بالبنت الجميلة، لكن أداءه الوجدانى (والذكورى بحكم التداعى) يثير شفقة الطرفين الآخرين: المتفرج والبنت الجميلة نفسها، وغالباً لا تتزوجه إرضاء لولى نعمتهما: المتفرج. فما بالك فى موقف الحركة!. هى إذن صورة شكلانية تنطوى على كثير من التعسف والقسوة والإجحاف، والخروج من أسرها يحتاج (خلافاً للموهبة بالطبع) إلى وعى بوظيفة الممثل -كل جزء فى التكوين النفسى والبدنى للممثل- خاصة فى سوق تعتمد ذوقاً أحادياً فى الغالب، وترى فى التمثيل نشاطاً تشخيصياً مجانياً أو مكملاً (مع أنه فى الواقع نشاط موازٍ للواقع نفسه). والاستثناء الوحيد من ذلك هو يحيى الفخرانى.
علاقة يحيى بـ«ضخامة» جسده طبيعية للغاية، وهو وإن لم يكن سعى -قبل أو بعد أن يمثل- إلى تحييد هذا المعطى، فإنه على الأقل لم يشعر بضيق ذات يوم، ولم يحاول أن يستثمر هذه الضخامة فى عمله كممثل. وقد سئل يوماً عن الوسيط الذى يفضله فى العموم فقال إنه «السينما»، لأنه شخصياً يحب «التمثيل الداخلى»، وهذا لا يصلح للمسرح.
آفة المسرح على رغم «أبوته» الفنية المتعارف عليها أن المتفرج طرف صريح ومباشر فى اللعبة التمثيلية. هذا الحضور فى الحقيقة خصم من حق الممثل فى الاجتهاد ومن قدرته على ضبط وتوجيه انفعاله. ثمة تواطؤ هنا بين الطرفين حتى وإن كانت القسمة عادلة وفيها منافع لكليهما: فعل من لحم ودم مقابل رد فعل من لحم ودم أيضاً. فى السينما (وفى التليفزيون بدرجة أقل) يدرك الممثل منذ البداية أنه أمام كائن غير عاقل هو «الكاميرا»، وأن الجمهور والسوق والذوق السائد والسياق الموضوعى وما شابه ذلك من اعتبارات إنما تأتى بعد انتهاء الممثل من عمله. لكن الجزاء فى السينما من جنس العمل: ليس ثمة خط رجعة لممثل لا تحبه كاميرا.. هذا ما يسمونه «حضوراً» أو «قبولاً»، وهو أشد أثراً من الحضور المباشر للمتفرج فى المسرح.
الموهبة وحدها لا تصنع ممثلاً. الموهبة والحضور لا يصنعان نجماً. ما الذى أوصل «الفخرانى» إذاً إلى هذه المكانة؟. سأقول إنها نفس المعطيات التى كان ممكناً أن تجعل منه مجرد «مضحك»، دبدوب يترجرج (فرحاً أو حزناً.. لا فرق!) من دون أن يترك أثراً: الرأس الذى يشبه رأس بوذا، والوجه الذى يشبه كرة أرضية ملونة فى مختبر.. تزدان بخطوط ودوائر ومنحنيات كثيرة تمثل قارات وجبالاً وبحاراً وأنهاراً ومزارع وأودية (الوصف للروائى خيرى شلبى)، ثم هذا البناء الجسمانى الوقور على ما فيه من ضخامة: فى هيكله العام -يضيف خيرى شلبى- سمت الباشوات القدامى وظلال مملوكية، لكأنه سليل شريف باشا أو السلطان الغورى، لا يجلس إلا مضطجعاً بين الشلت والطنافس، وثمة حاشية كبيرة من خدم وحشم تسهر على راحته.. مع ذلك ما إن تقترب منه حتى تكتشف خلف ملامحه وعينيه الضيقتين ميولاً عبثية مرحة، وأن قشرة الوقار هذه غير سميكة وغير حادة. كل هذه القسمات والملامح المضادة أصلاً لفن التمثيل السينمائى كانت ترشحه ليكون واحداً من مضحكى السينما وأرزقية المسرح الخاص، لكن الفخرانى لم يلتفت كثيراً إلى ذلك، واشتغل على ما وصفه عالم الاجتماع الفرنسى المعروف إدجار موران بـ«جدلية الممثل والدور»: أن يكتسب الممثل بعضاً من صفات الشخصية التى يجسدها.. لكن -بالمقابل- يبث فى هذه الشخصية جزءاً من جوهره البطولى، من صفاته الخاصة، وبهذا المعنى تفوق سليم البدرى فى «ليالى الحلمية» مثلاً على كافة الباشوات الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم، ولم نعد نجد حرجاً -نحن المتفرجون- فى القول بضرورة أن يكون الباشا فى الواقع شبيهاً بسليم البدرى وليس العكس.. هذا هو سر يحيى الفخرانى.