ربما تكون قد قرأت رواية «الوسية» بأجزائها الأربعة، أو شاهدت المسلسل المستوحى عنها، وهى تحكى السيرة الذاتية للأستاذ الجامعى خليل حسن خليل. جوهر القصة هو الأرض، تماماً مثل مسرحية الأرض التى أبدعها عبدالرحمن الشرقاوى. كان الحاج حسن والد «خليل» كريماً، يهوى الإنفاق بسخاء على من حوله، يولم الولائم، ويحيى الليالى، الأمر الذى كان يضطره باستمرار إلى الاقتراض، وعندما تراكمت عليه الديون اضطر للتنازل عن أرضه قطعة فقطعة، حتى فقدها، وشعر وقتها بمحنة إضاعة الأرض، وتجذر هذا الإحساس المر لدى «خليل» الذى كان يلمح فى عينى أبيه نظرة المذلة المرتبطة بفقد الأرض، وتسليمها للخواجة، بسبب الديون التى تراكمت عليه، وهو الأمر الذى دفع «خليل» إلى النزول إلى العمل فى «وسية الخواجة» وهو صبى غرير، وأصبح جل همه فى الحياة منذئذ أن يسترد الأرض التى أضاعها أبوه.
قصة «الوسية» التى تدور أحداثها خلال الفترة التى سبقت قيام ثورة يوليو 1952، لم تكن تعبر عن قصة فلاح مصرى فقد أرضه نتيجة سفه الإنفاق، أو خداع «الخواجة» الأجنبى له، بل كانت تعبر عن أزمة بلد بأكمله، أوغل فى الاستدانة من الغير، فكانت النتيجة احتلال أرضه. ويحتار القارئ لتاريخ مصر، وهو يتوقف أمام واحد من أهم حكامها الذين تسببوا فى احتلال أرضها بسبب الديون التى حصل عليها من الخارج، وفى الوقت نفسه استطاع أن يشيد العديد من المشروعات المهمة فى تاريخ المصريين، الكثير منها ما زال مصدراً للفائدة حتى يوم الناس هذا. إنه الخديو إسماعيل. كان الرجل مغرماً بالعمارة والبناء والتشييد، وكلما احتاج إلى تمويل لمشروعاته أو الحفلات المطلوبة لافتتاح مشروعاته، كان يلجأ إلى الديون، يحصل عليها بفوائد ربوية باهظة، وشيئاً فشيئاً أخذت العمارة تمتد، والديون تتراكم، وانتهى عصر إسماعيل بفرض الرقابة الأجنبية على المؤسسات المالية المصرية، وقام السلطان العثمانى بعدها باتخاذ قرار بعزله، وكانت ديون مصر مع نهاية حكمه: 126 مليوناً و354 ألفاً و360 جنيهاً.
خلف إسماعيل فى الحكم ولده الأكبر «توفيق»، الذى استسلم للأجانب منذ اليوم الأول لحكمه، بسبب تركة الديون الهائلة التى ورثها عن أبيه وانتهى المشهد، كما تعلم، بالاحتلال الإنجليزى لمصر عام 1882، ورغم التجربة المريرة التى عاشتها مصر أيام الاحتلال، وقيام ثورة يوليو 1952 ضد الفساد المالى والإدارى والاستبدادى الذى ارتبط بهذه الفترة من تاريخ مصر، إلا أن الحكام الجدد لم يتعلموا الدرس، وبالغوا هم الآخرون فى الاستدانة من الخارج، الأمر الذى جعل القرار المصرى فى بعض الأحوال خاضعاً لرؤية وتوجهات الغرب، حتى بعد الخروج الرسمى للإنجليز من مصر، وانتهاء زمن الاحتلال.
لم تكن رواية «الوسية» إذن مجرد قصة تحكى محنة فرد، بل كانت تروى حكاية شعب، الأرض بالنسبة لها عرض، وفقدها يعنى طأطأة الرأس، والدخول فى محنة إنسانية عاتية، وفى كل مرة كان يفقد الأرض بسبب ما يعانيه من أزمات اقتصادية، تضطره إلى الاقتراض والاستعانة بالأجانب، ورغم ذلك فهو لا يتعلم الدرس، ويقع فى الخطأ نفسه المرة بعد المرة.. ولله فى خلقه شئون..!.