على مدار الأيام الماضية نفحتنا الجرائد والقنوات الفضائية بمعلومات متنوعة عن نتائج التحقيق فى تسريب امتحانات الثانوية العامة، وأحاديث عن الاحتياطات التى اتخذتها الوزارة لمنع أى تسريبات مقبلة، لكننا فوجئنا بعد ذلك بتسريب امتحان اللغة الفرنسية والاقتصاد، وكنا قاب قوسين أو أدنى من اتخاذ قرار بإلغائهما، لكن جهة عليا تدخلت لتمرير الأمر، كما نشرت جريدة الشروق، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ فوجئنا يوم الأحد بتسريب امتحان الديناميكا قبل موعده بعدة ساعات، فاضطرت وزارة التعليم إلى اتخاذ قرار بإلغاء هذا الامتحان وتأجيل امتحانات الجبر والتاريخ والجيولوجيا.
نحن أمام مشهد فوضوى بامتياز، يشى بأن امتحانات الثانوية العامة هذا العام أصبحت خارج السيطرة، فليس فى مقدور أى يد أن تتدخل وتسحب فرامل التسريب، وتعيد الأمور إلى نصابها، أسباب هذا المشهد كثيرة وعديدة، يتعلق بعضها بأداء الوزارة، وبعضها بأداء الأسر وأولياء الأمور، وبعضها باشتراطات التأمين فى امتحانات تحظى باهتمام المصريين جميعاً، وما يجب أن نعترف به فى كل الأحوال أننا أمام منظومة تعليمية فاشلة، جوهر الفشل فيها يرتبط بأمرين أولهما، ربط مستقبل أى متعلم فى مصر بنتيجة الثانوية العامة، وثانيهما ربط التعليم فى مصر بالسياسة بصورة تؤدى إلى إفشاله.
ربط مستقبل المتعلم بنتيجة الثانوية العامة جزء من فلسفة دولة ومجتمع، أعلت من قيمة الشهادة الجامعية، وحولت بلداً بأكمله إلى «بلد شهادات»، وليس «بلد تعليم». فالشهادة لدى الجميع هى الأمل والمنى، حتى ولو كان حاملها جاهلاً، لأن التعليم أصبح فى خبر كان، كل مواطن أو مسئول فى هذا البلد يعلم ويفهم الطريقة التى يحصل بها الكثيرون على شهادات دون تعليم، ورغم ذلك فالجميع متصالح على المعادلة، أموال باهظة ينفقها المجتمع لأجل خاطر عيون الشهادة، دون اكتراث بالتعليم، لأن الجميع يعمل بنظام «سد الخانة»، فالمهم بالنسبة لولى الأمر أن يدفع فى الدروس الخصوصية، والمهم بالنسبة للمدرس أن يحصل على المعلوم، وبالنسبة للمدرسة المصروفات، وبالنسبة للحكومة أن تعبر الامتحانات، دون صخب أو ضوضاء، أما التعليم فى حد ذاته، فكل عام وأنتم بخير، التعليم أصبح بالنسبة لولى الأمر وجاهة ترتبط باسم المدرسة التى ألحق أبناءه بها، والفلوس التى يدفعها فى الدروس، وبالنسبة للدولة أرقام بشرية تحاول كل عام حشرها وتكديسها فى الجامعات، هل فكر أولياء الأمور مرة فى دعم المدارس، بدلاً من المدرسين؟ وهل فكرت الحكومة فى إنشاء عدد من الجامعات تتناسب مع عدد السكان، حتى تحل عقدة مكتب التنسيق؟ وهل فكر القائمون على شئون الجامعات فى تطوير أساليب التعليم وتوفير معرفة حقيقية للطلاب؟ الكل يؤدى بعقلية الموظفين التى تقوم على فكرة «سد الخانة».
الجوهر الثانى من جواهر فشل المنظومة التعليمية يرتبط بربط التعليم بالسياسة، فى الستينات حدث أن اعترض أحد عمداء كلية الطب على أعداد الطلاب الملتحقين بها، كما حددتهم الحكومة، لأن الكلية لا تستطيع استيعاب كل هذا العدد، فما كان من رئيس الدولة -عندما اُستفتى فى الأمر- إلا أن فرض عليه قبولهم، فاستقال العميد، منذئذ تحول التعليم إلى سياسة، وتكرس هذا الوضع أكثر وأكثر بمرور الوقت، لذلك ليس من المستبعد أن يكون تسريب الامتحانات شكلاً من أشكال المكايدة السياسية من خصوم السلطة الحالية فى مصر، من بشر لا يؤمنون بقاعدة «لا تعليم فى السياسة.. ولا سياسة فى التعليم»!