الأزمة أكبر آلاف المرات مما قدرته الحكومة، لأنها تتعلق بقضية بالغة الحساسية، غير مسبوقة فى التاريخ الوطنى، أدت إلى حالة من الانقسام الوطنى.. الرأى العام انقسم حول اتفاق الجزيرتين، نتيجة لانقسام النخبة، البعض مؤيد لسعوديتهما، ويتهم المعارضين بترويج إشاعات كاذبة، وإثارة التشكيك والبلبلة، البعض الآخر عارض فى البداية، وسرعان ما تراجع مؤيداً، مما أثار الدهشة، وطرح التساؤلات، والثالث كان مؤمناً بمصريتهما كأستاذ جامعى مشرف على رسالة علمية، ثم روج لسعوديتهما بعد الاتفاق!!، والرابع أمسك بمنتصف العصا «الجزر مصرية بالخرائط القديمة، سعودية فى الحديثة»!!.. بعد حكم «الإدارية» تبدلت الأدوار، وحاقت نفس الاتهامات بمطلقيها الأول، وإذا ما نقضت «العليا» الحكم ستنقلب الأدوار من جديد!!.. الإشكالية أن معظم مؤيدى الاتفاق لا ينطلقون من اعتبارات التاريخ والجغرافيا، لكنهم يستندون للثقة فى القيادة السياسية، وخطورة ذلك أن تفاقم الأزمة وتداعياتها قد ينعكس فى النهاية على القيادة نفسها، لا على حكومة ورطتنا جميعاً.
الانقسام امتد للبرلمان، «العجاتى» أوقف إجراءات عرض الاتفاق عليه، لحين صدور حكم «الإدارية العليا»، لكن «وهدان» وكيل المجلس أكد أن خطوات عرض الاتفاق، ستأخذ مراحلها الطبيعية، ولن تتأثر بالحكم!!، بينما حذر علاء عبدالمنعم من أن الحكم يمنع مناقشة الاتفاق، حتى تقضى «العليا» بحكم نهائى.. خبراء مجلس الدولة والقانون الدستورى انقسموا بدورهم؛ حامد الجمل رأى عدم جواز نظر القضية لتعلقها بالسيادة، طارق البشرى رفض لأنها «تتضمن تنازلاً عن السيادة على جزء من أراضى الدولة، مما لا يمكن اعتباره من أعمال السيادة»، بعض الخبراء يتفقون على أن الاتفاق لا وجود له قبل موافقة «النواب»، وتصديق الرئيس، ومن ثم لا يجوز قبول الطعن على اتفاق لا وجود له، رأفت فودة أكد جوازه، لأن الاتفاق لا يصبح من أعمال السيادة إلا عندما يرفع لـ«النواب»، لكن نور فرحات رأى أن المادة (97) من الدستور أسقطت نظرية إعمال السيادة بنص صريح «ويحظر تحصين أى عمل أو قرار إدارى من رقابة القضاء».. أى مصيبة أوقعنا فيها هذا الاتفاق؟!.
السعودية تستخدم أدواتها لتحقيق أهدافها الوطنية؛ مجلسا الوزراء والشورى وافقا على الاتفاقية.. بعد حكم «الإدارية» بدأت الضغوط.. الوديعة التى وعد بها «سلمان» تم إرجاؤها لحين التصديق على الاتفاق، لتضيف مبرراً لمن تطاولوا واتهموا الحكومة ببيع الجزر.. مواقع التواصل اشتعلت بتعليقات السعوديين الرافضين للحكم.. والكاتب طراد العمرى طالب مصر برد 33 مليار دولار، تمثل حصة الجزر من رسوم عبور السفن لمضيق تيران، والمعونات الأمريكية المقدمة لمصر منذ 1978، وعائدات الجمارك منذ 1950، كل ذلك دون رد فعل رسمى من المملكة، عبدالله العسكر عضو الشورى أكد أن «الحكم شأن مصرى ولا يكتسب قوة سياسية إلا بعد أخذ الحكومة به»، وأنور عشقى مدير «مركز الشرق الأوسط للدراسات» قال إن «المملكة لن تلجأ للقضاء الدولى إلا إذا قررت الحكومة المصرية إلغاء الاتفاق». اللجوء للتحكيم لا يُقلِق، إلا لو استمر انحياز الحكومة للسعودية، ضد نفسها!!.. أما المصريون الذين كان معظمهم لا يعرف اسم الجزر وموقعها، فقد تحولوا بعد الأزمة إلى باحثين، بالداخل والخارج، عن دلائل مصريتهما.. «تيران» سماها الفراعنة «تارا».. «تا» وتعنى أرض، و«را» يعنى الشمس، وتطور الاسم لـ«تيران» نتيجة وجود مرابط لثيران الجنود المصريين المرابطين لتأمين المسافرين لبيت الله الحرام، ضد هجمات عرب الترابين.. رصدوا مئات الخرائط التى رسمها مهندسو حملة نابليون، وتلك المنتشرة بمكتبات برلين، والكونجرس وجامعة ستانفورد الأمريكيتين، والخرائط البريطانية المصاحبة لاتفاقية 1906 وما تلاها، والخرائط الروسية، وتؤكد وقوع الجزيرتين داخل الحدود المصرية، بل والخريطة الرسمية للمملكة الممهورة بتوقيع الملك عبدالله والصادرة بقرار وزارى عام 2010، وكذا أطلس خرائط السعودية، و«الموسوعة الجغرافية للعالم الإسلامى» التى نشرتها جامعة الإمام محمد بن سعود بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس السعودية، وجميعها يثبت تبعية الجزر للسيادة المصرية، فضلاً عن خرائط مركز فض المنازعات البحرية والدولية التابع للأمم المتحدة، وعشرات الكتب؛ وأهمها «تاريخ سينا القديم والحديث وجغرافيتها» لنعوم شقير، والعديد من المراجع العلمية، بعضها لباحثين سعوديين، ناهيك عن 23 وثيقة ومستنداً رسمياً تناولتها «الإدارية» فى حيثيات حكمها، بخلاف أعمال السيادة التى مارستها الدولة المصرية بالجزيرتين دون منازع، فى السلم، والحرب.
فى المقابل، فإن المبررات التى قدمتها الحكومة لسعودية الجزر تتسم بالهشاشة، لأنها اعتمدت على مراسلات أحادية الاتجاه، وأغفلت أن اتفاق رودس بين العرب وإسرائيل 1949، وضع الجزيرتين ومضيق تيران تحت السيطرة المصرية، قبل ما تدعيه من مراسلات شفهية بين سعود وفاروق بشأنهما 1950.. الخارجية المصرية أصدرت بياناً حاول تبرير تبعية الجزر للسعودية، لكنه أكد حق مصر، عندما ورد به أن «عدم ممارسة المملكة لمظاهر السيادة على الجزيرتين قبل 1950 نتيجة عدم وجودها الفعلى فيهما، وكذا عدم ممارسة هذه المظاهر بعد هذا التاريخ نتيجة احتلال مصر لهما، لكن هذا لا ينفى تبعيتهما للسعودية»!!.. لم توجد بالجزر قبل 1950، ولا بعدها، إذن، فما مبرر تبعيتها لها؟!. سوء إدارة الأزمة جمَّع القوى المعارضة للنظام حول قضية محورية مثيرة للاهتمام الشعبى، ودفع بالحكومة لمأزقٍ بالغ الحرج، بدفاعها المستميت عن حق الغير فى أراضٍ أقل ما توصف به، أنها موضع مراجعة، يفترض خلالها انحيازها للوطن، المكلفة بإدارته.. وزير الثقافة، قام برعاية ملتقى المجلس الأعلى للثقافة والجمعية الجغرافية للترويج لسعودية الجزر، والبهاليل تسابقوا لتأليف الكتب، وتحرير المقالات، طمعاً فى العطايا.. تيران يا سادة على مرمى حجر من سيناء، أيلولتها لدولة أخرى، لا قدر الله، أياً كانت المبررات، مدعاة لحزن وطنى عميق، لا تسابق مخزٍ على تسليمها للغير.. محاولات تمرير الاتفاق، والرهان على الوقت يساعدان المعارضة على تغذية التأجج، وفتح مجالات جديدة لأزمة وطنية لاحت بوادرها.. أى حكم لـ«العليا» مخالف لحكم الـ«إدارية» سيخضع للتشكيك، لنفس الأسباب التى استند إليها طلب رد «العليا»، وأهمها الصلة العضوية بين العجاتى ومجلس الدولة، وتحميل تصريحاته شُبهة التدخل فى أعمال المحكمة.. قرار «النواب» سيتعرض أيضاً للتشكيك، بعد ابتلاع طعم اختصام المدعين فى القضية لرئيس المجلس، وتضامن الأخير مع الطاعنين على حكم «الإدارية»، فهل يُنتظر من البرلمان الإقرار بمصرية الجزر بعد توريط رئيسه فى هذا الطعن؟!.. نطاق القضية يتسع كل يوم، من المعارضة، للرأى العام، للإعلام، للقضاء، وغداً لـ«النواب»، وبعد غدٍ للدستورية.. دائرة جهنمية قد يمكن كسرها، بإعفاء حكومة الأزمة، وتكليف إدارة كفؤة لمعالجة ما صنعته من أزمات.. الفرصة سانحة، وقد نبكى ضياعها!.