من الأسباب الرئيسية لتعثر مسار التحول الديمقراطى فى مصر، منذ اليوم الأول بعد سقوط رموز النظام السابق، هو عدم اتفاق القوى السياسية على أمر يظنه البعض محسوماً، وهو شكل وطبيعة النظام السياسى البديل.
نعم، هناك خطاب مستمر عن النظام الديمقراطى من معظم الأطراف، وهناك أجزاء عن الديمقراطية وأهميتها بمعظم البرامج الحزبية والانتخابية، لكن ظل هذا النظام الديمقراطى ومعالمه الأساسية بعيداً تماماً عن عقول الكثير من النخب السياسية، ففى ظل مسار مرتبك لإدارة المرحلة الانتقالية وتعاظم أزمة الثقة بين القوى السياسية وتكالبها على مصالحها الضيقة، غاب التركيز على الموضوع الأساسى الذى كان يجب أن يكون موضع الاهتمام فى أعقاب ثورة ضد الاستبداد، وهو النظام الديمقراطى بمفاهيمه ومؤسساته وقيمه وضماناته المتعارف عليها. فُقِدَ هذا الموضوع وسط موضوعات أخرى ليست بأهمية بناء النظام البديل الذى (متى تم التوافق عليه وصياغته بشكل صحيح ومتكامل)، فإنه سيساعد على الحد تدريجياً من تكرار ممارسات النظام السابق وفتح الطريق أمام ظهور حكومات منتخبة وقادرة على التصدى للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية، ووقف أى جدل عن سيطرة فصيل على مؤسسات الدولة أو تسييس الأزهر أو الجيش أو الجهاز الإدارى للدولة.
وظن البعض أنه يمكن الاستثمار فى الديمقراطية واستخدامها بشكل جزئى مع تجاهل الكثير من مبادئها وقيمها ودون الالتزام بأبجدياتها داخل أحزابهم أو فى علاقاتهم مع الآخرين. أدى هذا، مع غيره من العوامل، إلى الكثير من النتائج السلبية كضعف الأحزاب وعدم نضج الكثير من الممارسات السياسية على الأرض، وإلى فقدان الشباب الثقة فى العملية السياسية بأكملها وظهور حركات عنيفة.
ولاتزال الكثير من القيادات والنخب الإسلامية، وعلى الأخص منها السلفية، تتشكك فى الديمقراطية، وتنظر لها على أنها مذهب سياسى، ولم تبذل جهداً حقيقياً لتحرير المفهوم وتمييزه عن الليبرالية والعلمانية، ولا التمييز بين الديمقراطية كنظام سياسى وبين نتائجها. وطبيعى ألا يهتم هؤلاء ببذل الجهد لتحسين الديمقراطية والإضافة إليها كما تفعل كل الأمم الحية. وأهدرت فرصة الجمعية التأسيسية ولم تستغل للوصول إلى حلول مبتكرة للمشكلات التى تفرزها الممارسات الديمقراطية فى الغرب كتحسين التمثيل فى المجالس البرلمانية والمحلية لتكون معبرة فعلاً عن الأمة ومطالبها، أو لتحفيز الناس على التقيد بالقانون والمؤسسات المنتخبة، أو للحد من أثر المال السياسى والعصبية بالانتخابات، أو لربط النواب بدوائرهم وابتكار طرق لمراقبتهم، أو لتفعيل مشاركة الشباب والمرأة فى الحياة السياسية وغير ذلك.
ولم تشهد مصر تشكيل فرق متخصصة من الخبراء للإنجاز فى محاور مهمة للغاية كضمانات دولة القانون واستقلال القضاء، وكيفية إنشاء مؤسسات دولة مهنية وغير مُسيسة ولاسيما بالقضاء والجيش والشرطة والجهاز الإدارى، وآليات تفكيك الاستبداد بكافة المؤسسات وعلى كل المستويات، وطرق زرع منظومة قيمية وطنية جديدة تقوم على التسامح وثقافة الحوار والنقد البنّاء، وغير ذلك.
كان طبيعياً بعد أن اختلفت القوى السياسية على النظام المنشود أن يختلفوا على الوسيلة وعلى خارطة الطريق، وشهدنا من اليوم الأول وحتى اليوم خلافات مستمرة مع تعدد الأهداف والرؤى وغياب التركيز على هدف واحد، ولا سبيل للخروج من هذا إلا بالاتفاق على معالم النظام الديمقراطى المنشود وتفاصيله وعلى خارطة الطريق المؤدية إليه.