كنت أراجع مع ابنتى منهج «النصوص» فاسلتفتتنى خطبة بديعة لـ«قس بن ساعدة» ألقاها فى سوق عكاظ يقول فيها:
- أيها الناس اسمعوا وعوا.. إنه من عاش مات.. ومن مات فات.. وكل ما هو آت آت.. ليل داج.. ونهار ساج.. وسماء ذات أبراج.. ونجوم تزهر.. وبحار تزخر.. إن فى السماء لخيراً.. وإن فى الأرض لعبراً.. فما بال الناس يذهبون ولا يرجعون.. أرضوا بالمقام فأقاموا؟!.. أم تركوا هناك فناموا؟.. إلخ..
فشدنى ما بها من حكمة بليغة.. وبيان جميل.. وبديع خلاب..
وقلت لابنتى فى حمية وزهو وحماس:
- إن «قس بن ساعدة» هو خطيب العرب وحكيمهم.. وقد ضرب به المثل فى البلاغة والموعظة الحسنة.. وهو أول من قال فى خطبته: «أما بعد»، كم هى رائعة عبارة «أما بعد» تلك.. كلمتان فقط ومع ذلك فهما مشحونتان بالكثير من المعانى والإيحاءات والدلالات فى إنجاز وتكثيف وبراعة فى السبك والصياغة..
فإذا بها تنفجر ضاحكة فى سخرية أربكتنى.. فلما سألتها: ما الذى يضحكك؟!.. واجهتنى بصلف وعنجهية: يا سلام: ده إيه العبقرية دى؟! الأخ «قس» اخترع كلمة «أما بعد».. أما راجل «شكلمبوخ» صحيح (فهمت فيما بعد أن كلمة «شكلمبوخ» هذه تعنى أنه لا قيمة له) وحضرتك فرحان قوى بيه؟!.. وبالهرتلة اللى بيقولها.. ليه؟!.. اخترع الفيس بوك ولا الفمتوثانية؟!
أسقط فى يدى.. وأصابنى الإحباط وأطرقت.. ثم ما لبثت أن اختلست إليها النظر فلمحت فى عينيها تعبيراً بالتشفى لهزيمتى السابقة فى النزال بين الأجيال.. وانتهزت الماكرة الفرصة بسرعة لتطلب منى أن أصطحبها إلى السينما لتشاهد فيلماً كوميدياً شبابياً من أفلام العيد، وطلبت منى اختيار واحد من أربعة أفلام هى: «أبو شنب» و«عسل أبيض» و«بارتى فى حارتى» و«30 يوم فى العز».. فلما اندهشت من أسماء تلك الأفلام ضحكت مرددة: وفى الطريق أفلام: «أديك فى الجركن تركن» وفى «الحق سجق».
ثم هرعت بسرعة إلى مكتبى.. وأخرجت كل أمهات الكتب المعنية بالدراما منذ كتاب «فن الشعر» لأرسطو وحتى كتب المحدثين، فأعيانى البحث عما يسمى «الكوميديا الشبابية» ولم أجد سوى كوميديا الموقف.. كوميديا الشخصية.. كوميديا الموضوع.. الفارس.. الكوميديا السوداء.. إلخ..
المهم اختارت هى مشاهدة فيلم «30 يوم فى العز».. وما إن بدأت تيترات الفيلم تتوالى حتى لاحظت موجات من الإعجاب والتجاوب تتواتر.. ثم تتزايد مصحوبة بضحكات وتعليقات باسمة.. وهمهمات مرحة تعبر عن حبور وسعادة المشاهدين ومعظمهم من الأطفال.. والصبية المراهقين والمراهقات بأحداث الفيلم.. وحينما التفت إلى ابنتى المستغرقة المتابعة بلهفة وشغف لأسألها عن سر اندماجها مع مواقف وأحداث تافهة ومفتعلة، زجرتنى فى حسم وامتعاض مرددة: هش.
أما مضمون العمل فحدث ولا حرج.. حيث لا يحتوى المحتوى سوى على قصة بلهاء تنتمى إلى «المثلث السبكى المنحط لتصدير الإسفاف» (راقصة ومطرب شعبى ومناخ يعكس قاع المدينة) عن تهريب مجموعة من المساجين للقيام بمهمة استعادة ملهى ليلى تديره راقصة ورثته عن زوجها الراحل وتتنازع عليه مع ابن زوجها، الذى يريد أن يزيحها من طريقه بكافة الطرق.. وتسلسل الفيلم يعج بالألفاظ الجنسية البذيئة.. وتدنى أداء الممثلين.. وخشونة وفظاظة الضرب على الوجوه والأقفية استدراراً لضحكات غليظة..
وتابعت صاغراً مرغماً شريطاً ساذجاً يفتقد إلى كل عناصر البناء الدرامى السليم.. شخصيات هشة لا أبعاد لها.. حوار ركيك فج.. أحداث سطحية تخاصم العقل.. وتعادى المنطق.. أجواء ومناظر وانتماءات بيئية لا تعكس الواقع المصرى الحقيقى.. ولا تنتمى إلى الحياة الاجتماعية التى يعيشها معظم شبابنا، ناهيك عن الرخص والتدنى فى المحتوى..
فى طريق عودتنا إلى المنزل حاولت أن أفهم ابنتى أن الفيلم يمثل إفلاساً فنياً وفكرياً، حيث يعتمد على «تيمات» قديمة ومستهلكة لا جديد فيها.. ولا تشى بقيمة أو رسالة أو هدف يريد صانعوه أن يوصلوه إلينا، وأن الشعار المرفوع بأن مثل هذه الأفلام تمثل رؤية الشباب الجديدة لواقعنا إنما هو من قبيل التشدق الذى يعكس خواء واضحاً.. فالحصاد النهائى أنه فيلم مقاولات يرتدى «تى شيرت» الشباب، ولكنه لا يقدم سوى سينما شائخة متهالكة الأوصال.
فى المنزل أطلعتها على فقرات من الكتب التى أعتز بها.. وتعلمت منها أصول الدراما الكوميدية، وانبريت أفهمها أن الكوميديا هى فن مخاطبة العقل.. والتصدى لسلبيات المجمع المعاش، وإشكالات الواقع المعاصر، وعورات البشر، ونقائص النفس الإنسانية، وتناقض نوازع السلوك الفردى مع رغبات المجموع، وصراع الإنسان غير المتكافئ مع قوى ضاغطة أقوى من قدراته على التكيف معها.. ذلك كله من خلال الاستخدام الماهر لأدوات الكوميديا: المفارقة والسخرية.. والتصادم والتضاد.. والتضارب.. والتناقض.. والحوار اللاذع الموحى.. والهدف إحداث صدمة فى وعى المتفرج وضميره.. تدفعه -من خلال الضحك- إلى إعادة التفكير المنطقى الاستدلالى فى ذلك الواقع، تمهيداً لإعادة صياغته وتغييره. وبالتالى فإن أغلب ما تقدمه السينما الآن من شرائط تدعى أنها أفلام كوميدية لا تمثل سوى إهانة لهذا الفن الجميل.. أما الإقبال الجماهيرى فتفسيره الوحيد أن الناس من فرط اعتيادهم على القبح أصبحوا يرونه جمالاً..
وما إن بدأت أستشهد لها بجملة عن مفهوم الضحك بمعناه العميق من كتاب «الضحك» لـ«برجسون»، حتى قاطعتنى فى تأفف وضيق مرددة:
- انسى وخد البنسة.. وكبر التت.. الحكاية مش حابكة.. استقرب (عرفت فيما بعد أن تلك العبارات تعنى الدعوة إلى الاستسهال والركاكة)..
طريقك زراعى.. «وقول يا باسط تلاقيها هاصت»
وخليك (ON) ما تبقاش (OFF) معايا. و«بطل أفورة» (أى لا تبالغ فى فهم وتفسير الأمور).. الحياة مش مترجمة (أى غير مفهومة ومبهمة)، وعديمة الجدوى، حتى لو تمت الاستعانة بـ«أنيس عبيد» نفسه مترجم الأفلام الأجنبية، ثم اندفعت تاركة إياى فاغراً الفاه مشدوهاً.. أحدق فى اتجاهها ذاهلاً مبهوتاً.. ما إن استجمعت شتات نفسى المضطربة.. حتى عكفت بدأب على دراسة معنى تلك العبارات التى أصبحت مستلزمات العصر، ومفردات لغته الجديدة.. إنه زمن الجدب الأعظم..