القضية التى يمكن تسميتها بالكبيرة هى حماية السلم والأمن الداخلى للوطن وللمواطن المصرى، لا ينازع تلك القضية مكانتها الرئيسية والكبيرة سوى مهمة فرض سيادة القانون وحماية حق المواطنة الأصيل، وكلاهما رغم محوريتهما ودقتهما يتعرضان لتهديد حقيقى، منذ بدأت الاعتداءات تتوالى على المسيحيين متخذة أشكالاً متنوعة، حوادث بعضها صغير ومحدود بالمرجعيات الإحصائية وحسابات الخسائر، لكن المقاربة مع تلك الأحداث من هذه الزاوية يعد خللاً فادحاً فى الرؤية، بل ربما التمسك بتلك الزاوية وإغفال ما سواها هو السبب الرئيسى للأزمة.
مكونات الأزمة تشكلت على مرأى ومسمع من الجميع، بداية من توصيف عملية الاعتداء على منزل مملوك لمواطن مسيحى، وربما يمتد لاعتداء بدنى بالضرب أو القتل، فيتم صك المصطلح الكريه المراوغ كتوصيف للواقعة بكونها أحداث «فتنة طائفية»، تتخذ المراوغة بعدها خطوة متقدمة بإحالة المشهد إلى من يريد إحداث وقيعة بين أشقاء الوطن الواحد، بالطبع من دون الإشارة أو ذكر من هو الجانى الذى يستهدف الوقيعة، رغم أن لكل حادث اعتداء أطرافه المعلومين، وجرمهم مباشر وماثل ولم يكن به مساحة من غموض تسمح بتدبير مكائد خفية، حتى كلمة «الإشاعة» التى تأخذ مكانها سريعاً فى معظم روايات وقائع تلك الحوادث، فهى واقعياً تزييف لفعل تحريضى غالباً ما يكون معلوماً مرتكبه ومكان إطلاقه وزمانه، وبمجرد إتمام الجريمة وانتقالها إلى الساحة الرسمية لأجهزة الدولة، إذا بنا وقد دخلنا إلى المتاهة الحقيقية المتكاملة، الباب الرسمى لتلك المتاهة يطلق عليه اسم حركى هو «الخصوصية»!
تلك الخصوصية المفترضة لها مستخدموها وضحاياها والمقيدون بأغلالها بالرغم من كونها اسماً لشىء آخر تماماً، فضلاً عن قدرتها الفريدة على التحور، فى الظلام تتحول إلى سلاح قاتل أو مهدد على الأقل، وفى النور وأمام التجمعات الكثيفة تتشكل صنماً يُعبد من دون الله ويُقدس وتقدم له القرابين زلفى، هذه الكلمة تصافحك فى مكتب السيد المحافظ ومدير الأمن ومدير المباحث، وتُرعى فى مجالها الحيوى بدوار العمدة ومنزل شيخ البلد ومقر نقطة الشرطة وأملاك كبار العائلات، وتُطهى لها الوجبات اليومية فى مقار أعضاء البرلمان الممثلين للشعب، وللإنصاف هى وجبة غير قاصرة على المناسبات المسيحية فقط، إنما هى ملاذ ومتاريس يستحب تناولها على موائد أخرى مثل حفلات الثأر وجرائم الشرف، لذلك فقد وجدت لنفسها طريقاً ليتمتم بها مشايخ وقساوسة فى صلوات وذكر لا يعلم سوى الله قدرها فى ابتغاء وجهه الكريم.
هذه المتاريس الحصينة بالطبع قادرة بسهولة على إجهاض قول الحق، واستباق فعل القانون بالدفع إلى بوابة المتاهة التى لن نصل فيها لقرار، فادعاء خصوصية تلك الأمكنة والمجتمعات يسمح بقدر كبير من النفاق المدمر، فلن يستطيع أحد أن يحيل المشكلة لمرجعيات الجهل والعنف والتعصب، وسيكون من غير اللائق بالطبع الإشارة إلى مساحة الفراغ الهائل التى تستحوذ على حياة تلك المجتمعات، وأن صراعات الفقر وأمراض التخلف بقادرة على أن تنفس عن نفسها بهذا النوع من الجرائم، ففعل إحراق منازل أو قذفها بالحجارة والتشفى بخروج مواطنين من مساكنهم ليست بالجرائم الاعتيادية، حتى ولو تم التسليم بمحدوديتها العددية، فالمطلوب فقط الانتقال بالجلوس على الجانب الآخر، لتخيل مساحة الألم والحزن الممرور للمنزل والأسرة المسيحية، ليست التى وقعت عليها تلك الجريمة فتلك فى مأساة مدوية، إنما المقصود هنا الأسرة المسيحية المصرية التى تعيش فى أى مكان خلف باب مغلق، بماذا يتحدثون بينهم تعليقاً على جرائم ترتكب بحقهم فقط لكونهم مسيحيين، وكيف يستقبلون ضربات القبح التى تصيبهم وهم يعلمون كل ما سبق ذكره ولديهم منه المزيد، وهم مطالبون بقدر كبير من التعقل وعدم النزوع للإثارة حماية لوطنهم، وهم للحقيقة ينحازون لهذا الفعل فطرياً وفكرياً ووطنياً بدلالة الواقع الذى نلمسه.
فى النهاية هل تمتلك الدولة رفاهية الانتظار لحين علاج تلك الأمراض المتوطنة وتعافى المجتمعات الحاضنة لها، بالطبع هى مغامرة محفوفة بالخطر وفرضية تتسم بالإمعان فى المراوغة، فهناك حلول جراحية لمثل تلك المهددات يمكن اعتمادها سريعاً لقطع رقاب تلك الذئاب الصغيرة، بداية من ضبط مصطلحات الدولة فى التعاطى مع تلك الجرائم، مع الوعى بخطورة التعايش والرقص مع الذئاب، فالأمن والسلم الأهلى والمواطنة الكاملة للجميع هى السياج الآمن الحقيقى بعيداً عن متاهات الخصوصية الزائفة، إنفاذ القانون بحسم ضد مجرمين متطرفين يراهنون بجهل فاضح على صرف نظر الوطن عن الجد من الأمور، ويستهدفون سحب الجميع إلى مربعهم المظلم، الدولة وحدها بأجهزتها الرسمية دون «غيرها» هى القادرة على فرض الردع اللازم، بإرادة رشيدة ورؤية واقعية تمكنها من التعامل بالأدوية القادرة على تأمين التعافى اللازم.