إما أنها «أزمة جنيه» أو «أزمة نقص دولار»، ولكن أن تكون تسمية المشكلة هى «أزمة دولار»، فهذا تدليس.. انهيار الجنيه الآن أصبح ككرة الثلج التى ستأخذ فى طريقها كل من يقف أمام التطور الطبيعى للسوق، هؤلاء سيداسون تحت عجلات العرض والطلب، بعد أن تحول الدولار نفسه إلى سلعة استثمارية وأحد أكبر مخازن القيمة، الناس ترفض بيعه، وبعضهم يمتنع عن إيداعه فى البنوك. بينما تصر الدولة أن تقف أمام الحركة الطبيعية للسوق، فى تقليد لا تفعله -ولا تستطيع علمياً وعملياً أن تفعله- أقوى البنوك المركزية فى أكبر الدول العظمى.
جزء لا بأس به من الأزمة يكمن فى الإصرار على تعيين رجال البنوك فى المناصب التى تحتاج إلى خبراء اقتصاد، مثل منصب محافظ البنك المركزى. ولعلنا لو غيرنا اسم البنك المركزى إلى «بيت الاقتصاد» مثلاً قد نفهم ونتوقف عن تعيين هؤلاء.
كل ما يحدث فى سوق الدولار ليس أفعالاً بل هو ردود أفعال لما يقوم به البنك المركزى متمثلاً فى محافظه. فتخبط قراراته وتصريحاته وحده كفيل بإسقاط الجنيه إلى الدرك الأسفل، الرجل يحتاج لحفظ بيت الإمام الشافعى القائل: «كم بالمقابر من صريع لسانه، كانت تخاف لقاءه الشجعان».
طارق عامر هو أول محافظ بنك مركزى يشتبك ويتلاسن مع رجال أعمال، وأول محافظ بنك مركزى يتقدم ببلاغ للنائب العام لإغلاق صحيفة، فى مايو الماضى، لأنها قدمت تحليلاً يقول إن الدولار قد يصل إلى 16 جنيهاً (كان وقتها 11 وساعة كتابة المقال 13).
طارق عامر هو أول محافظ بنك مركزى يصفى حسابات قديمة مع رجال بنوك ويُفصل قراراً لإبعادهم، ألغاه القضاء الإدارى لاحقاً، وذلك بمنع استمرار رؤساء البنوك لأكثر من «تسع» سنوات (لا ثمانى ولا عشر)، وكان ينقص أن يقول تسع سنوات وثلاثة أشهر أو يذكر اسم أشخاص بعينهم فى القرار!
طارق عامر هو أول محافظ بنك مركزى يظهر فى الإعلام عدد مرات أكبر من مجموع كل ظهورات سابقيه منذ إنشاء البنك المركزى، وقت الدكتور أحمد زكى عام 1951. والطبيعى فى كل بلدان العالم أن تكون علاقة محافظ البنك المركزى بالإعلام مختصرة فى مجرد تصريح يدلى هو به لتفسير إجراء اتخذه البنك، وليس جلوساً بالساعات فى الاستديوهات لترديد كلام ضحل لا يشتريه طفل صغير، فما بالك بالمؤسسات المالية ومتخصصى وخبراء الاقتصاد «إللى بجد» الذين يوجه لهم الكلام بالأساس.
فى فبراير الماضى، فى لقاء عام مع رئيس الجمهورية، تحدث طارق عامر -كعادته- فى العموميات، وحين أنهى كلمته أعاده الرئيس مرة أخرى إلى المنصة وطالبه بالحديث المدقق بالأرقام، ومع ذلك لم يتمكن من ذلك، فأفهمه الرئيس المطلوب مرة أخرى، لكنه لم يفعل أيضاً (تلميذ «مش مذاكر»).
سوء أداء الرجل لا خلاف عليه، ولكن الأزمة الكبيرة أن كل محافظ بنك مركزى لا بد أن يصاحبه فريق متخصص من الاقتصاديين، لكن طارق عامر لا يمتلك مثل هذا الفريق (الشخصية الاقتصادية الوحيدة كانت «رانيا المشاط» التى «طفشت» وذهبت للعمل كمستشارة لصندوق النقد الدولى).
رئيس البنك المركزى، بشخصه، هو أحد أهم أسباب ظاهرة «الدولرة» وإضعاف العملة الوطنية، لكثرة الحديث عنها، وتقليل ثقة الناس بها، وهو مدان بخلق أزمة مضاربة وطلب عالٍ على الدولار.. وعلى مستوى العالم، فإن الأزمات المالية العنيفة ليس لها مقدمات مساوية لحجمها، فهى تتميز بالسرعة الكبيرة فى إطار ظاهرة دومينو يتسبب بها أشخاص مثل طارق عامر، ولا يمكن مواجهتها بمن هم مثله.