فى شهر مايو من عام 1876 -أى قبل الاحتلال الإنجليزى لمصر بست سنوات- وبعد أن كثرت ديون مصر لدى الأجانب، اضطر الخديو إسماعيل إلى وضع نظام يكفل لهم استيفاء ديونهم، فقرروا إنشاء صندوق للدين، يكون بمثابة خزانة فرعية للخزانة العامة تتولى تسلم المبالغ المخصصة للديون من المصالح المحلية. نحن الآن فى أول أغسطس 2016، حيث بدأت زيارة بعثة صندوق النقد الدولى إلى مصر لبحث مسألة الحصول على قرض قيمته 12 مليار دولار. السبب الذى يدفعنى إلى الربط بين التاريخين (مايو 1876 وأغسطس 2016)، ملاحظة لافتة للنظر ذكرها المستشار ماجد شبيطة، نائب رئيس مجلس الدولة، والمستشار القانونى لوزير المالية الأسبق، فى تقرير نشره موقع جريدة «المصرى اليوم»، جاء فيها: «صحيح أن الصندوق يعطى ثقة للمستثمرين الأجانب إلا أنه لا يرضى إلا بإجراءات غاية فى الخطورة على الدولة، أقلها رفع الحصانة الامتيازية عن الأملاك العامة للدولة حال عدم السداد».
لو تأملت جيداً فى هذه الملاحظة فستجدها فى منتهى الخطورة، لأن النتائج التى ستترتب عليها كارثية. كلنا «ملهيون» فى الحديث عن الاشتراطات التقليدية التى يضعها «صندوق النقد»، مثل إلغاء الدعم، وتعويم الجنيه، وفرض المزيد من الضرائب، والتخفف من موظفى الدولة، وتأثيراتها على تسميم الواقع المعيشى للكثيرين أكثر مما هو مسمم، لكن يبدو أن هناك ما هو أخطر فى الشروط التى يمكن أن نتورط فيها للحصول على القرض، وحقيقة الأمر فإن الحكومة الحالية مطالبة بالتعامل بمنتهى الشفافية مع هذا الأمر، فتكشف للشعب جميع الشروط التى وضعها الصندوق، وترد بشكل قاطع على الشروط الخطيرة التى يشير إليها البعض، مثل شرط «الحصانة الامتيازية» على الأملاك العامة للدولة المصرية. لقد طالب عدد من النواب الحكومةَ بأن تعرض على البرلمان برنامج الإصلاح الاقتصادى، قبل تقديمه إلى بعثة صندوق النقد الدولى، وعليهم أن يتمسكوا بهذا المطلب كل التمسك، وواجب الحكومة أن تستجيب له، ومن حق الشعب أن يتابع جلسات «النواب» التى ستناقش هذا البرنامج، حتى يكون على نور بجميع الشروط التى وضعها الصندوق للحصول على القرض.
أفهم أننا نعانى من معضلة اقتصادية كبرى، وأن مصر بحاجة بالفعل إلى هذا القرض، لكى تعطى ثقة أكبر للمستثمرين، ولحل مشكلة العجز فى الموازنة، لكن علينا ونحن نتعامل مع هذا الموضوع أن نستظل بمقولة أننا «نبحث عن حل ولا نبحث عن مشكلة أكبر»، فليس من حسن الإدارة أن ننظر أسفل أقدامنا ولا ننظر إلى توابع أى قرار على المستقبل. والكل يجمع على أن القروض أكبر آفة يمكن أن تنحر فى مستقبل الأمم، لذلك من حق الناس أن تكون شريكاً فى مثل هذه القرارات الخطيرة، لأن القرارات الجماعية تليق بالموضوعات الخطيرة التى سيتحمل نتائجها الجميع. على الحكومة أن تمتلك الشجاعة الأدبية لمواجهة الشعب بجميع شروط القرض، سواء من خلال مجلس النواب، أو من خلال إثارة حوار مجتمعى حر عبر وسائل الإعلام، حتى لا نجد أنفسنا ذات يوم وقد ركبنا آلة الزمن وعدنا إلى زمن «المحروسة 1876».