هذه كلمات يصعب علىّ تدوينها، ومشاعر حزن قاسية لفقدان إنسان رائع وعالم جليل عشق مصر ولم تبعده إقامته الطويلة فى الولايات المتحدة عن التفكير المستمر فى أحوال أهلها وثرواتها البشرية والطبيعية المرتبطة بنيلها وصحاريها، وإحساس يتملكنى للمرة الأولى، وهو بغير شك وثيق الصلة بحزنى على ما آلت إليه مجمل الأوضاع فى الوطن بعد عامين على ثورة عظيمة، إن مصر دخلت فترة عجفاء تفقد بها الكثير من المخلصين لها والمناضلين من أجل رفعتها وتقدمها. بالأمس القريب رحل سامر سليمان، أستاذ الاقتصاد السياسى، الذى عاش حياته القصيرة مناضلا من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
والآن يفارقنا الدكتور رشدى سعيد، أستاذ الجيولوجيا والدارس الأول للنيل والصحارى المصرية والحالم بوطن حديث وديمقراطى ومتقدم، والذى دوما ما اعتبرت عمره المديد تميمة حظ لمصر وإشارة سماوية بأن الأجيال الحالية من المصريات والمصريين ستنجح فى وضع الوطن على طريق التحديث الحقيقى والديمقراطية والتقدم، أحلام رشدى سعيد.
التقيت الدكتور رشدى سعيد للمرة الأولى فى برلين، منتصف التسعينات، حيث حل باحثا زائرا على أكاديمية البحث العلمى الألمانية وكنت حينها أعد أطروحة الدكتوراه. ثم تجدد اللقاء بزوجته الفاضلة السيدة وداد وبه بعد ذلك بسنوات فى الولايات المتحدة عندما بدأت عملى البحثى بوقفية كارنيجى بواشنطن فى 2005.
وخلال الفترة الممتدة من 2005 وإلى 2009، جمعتنى معه نقاشات متعددة فى ندوات وجلسات اجتماعية و«لمّات مصرية» فى الأعياد كان يدعو بها إلى منزله.
خلال هذه الفترة، قرأت أعماله المكتوبة وشرفنى هو بقراءة بعض ما كنت كتبت عن الديمقراطية والحداثة والدين والمجتمع المدنى فى مصر. خلال هذه الفترة وعندما لم أتمكن لأكثر من عام (2007-2008) من العودة إلى مصر بسبب كتابات ناقدة لنظام مبارك، لم أجد إلا فى الدكتور رشدى سعيد المثقف القادر على تفهم قسوة الظرف ومرارة الإحساس بالغربة حين يحال بين المرء وبين العودة إلى الوطن الذى يعشق. خلال هذه الفترة، لم يفقد هو أبدا تفاؤله بقرب تحسن الأوضاع فى مصر وثقته فى قدرة شعبها على إزاحة الجهل والظلم والتخلف عن عاتقه، وإن أقلقه تصاعد خطاب التطرف والتمييز وآلمه جدا أن يشار إليه أحيانا من قبل بعض ضعاف النفوس ومحدودى المعرفة بـ«العالم القبطى» أو «المفكر القبطى» وهو المصرى الصميم الرافض للتمييز والرافض أيضاً لتسييس «الملف القبطى».
رحل الدكتور رشدى سعيد، ومصر بعد ثورة عظيمة تضل الطريق إلى التحديث والديمقراطية والتقدم، رحل الدكتور رشدى سعيد وتميمة الحظ لمصر التى شعرت بها دوما معلقة على خيط عمره المديد لم تعد معنا. أودعه حزينا على فقدانه، وحزينا على فقدان آخرين من المخلصين للوطن، وحزينا على مصر.