مع اقتراب جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية، تتجه مصر إما نحو استقرار حقيقى منشود، وإما المزيد من التيه والصراع بين القوى المؤثرة على الساحة السياسية. ومنذ أعلنت نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية وبدأت تلوح فى الأفق نذر لا تبشر بخير، وجرت أحداث ووقائع قوامها النزاع والخلاف، وأخطرها الاعتراض بصور محددة على نتائج الجولة الأولى ورفض الطعون عليها. ولا شك أن الانتخابات الرئاسية اختبار صعب لقدرة المصريين على تجاوز خلافاتهم وشجونهم وممارسة الديمقراطية الحقيقية التى حرموا منها على مدار عقود.
ومع هذه الأحداث، تداعت إلى ذاكرتى وقائع الانتخابات الرئاسية الأمريكية التى جرت عام 2000 بين مرشح الحزب الجمهورى جورج دبليو بوش ومرشح الحزب الديمقراطى آل جور، تلك الانتخابات الشهيرة والفريدة فى التاريخ الأمريكى التى تابعها وترقبها العالم حينذاك، ليكتشف أن الديمقراطية الأمريكية التى يُضرب بها المثل ليست نموذجاً مثالياً يحتذى كما كان يعتقد الكثيرون.
فما أن وقع النزاع بين الحزبين الجمهورى والديمقراطى حول نتائج عمليات فرز الأصوات، وبخاصة فرز الأصوات فى ثلاثة من أحياء ولاية فلوريدا، حتى احتكم الطرفان للقضاء، وبعد صراع قانونى معقد استعان فيه الطرفان بالمحامين المتمرسين وأساتذة القانون الدستورى المرموقين، بلغ النزاع المحكمة العليا الأمريكية، أعلى محاكم البلاد، ومحكمة نهاية المطاف فى التدرج القضائى على المستوى الفيدرالى، وقولها الفصل فيما يعرض عليها من منازعات، فحسمت المحكمة العليا النزاع لصالح الحزب الجمهورى ومرشحه للرئاسة، إذ صوت خمسة من قضاة المحكمة العليا التسعة لصالح الجمهوريين وأحقيتهم فى الرئاسة مقابل أربعة، أى أن فارق صوت واحد فقط هو الذى جاء بالجمهوريين وإدارة جورج دبليو بوش إلى الحكم وسدة الرئاسة الأميركية.
ومن عادة الأمريكيين وكثير من الديمقراطيات الغربية فى انتخاباتهم أن يلقى المرشح الخاسر كلمة وسط أنصاره يسلم فيها بالهزيمة وبفوز منافسه، فيما يعرف بخطاب التسليم أو الإقرار بالهزيمة concession speech. ولم يكن من السهل على آل جور، وقد خسر الانتخابات الرئاسية بفارق صوت واحد من أصوات القضاة أن يسلم بالنتيجة، سيما والفارق فى الأصوات بين المرشحين ضئيل، والنزاع حول عمليات الفرز وما شابها من أخطاء له ما يسانده، فضلاً عن حسم النزاع على منصب الرئيس من خلال هيئة غير منتخبة، ولو كانت المحكمة العليا، بل وبفارق صوت واحد، ومع ذلك، وقف آل جور وسط أنصاره ومؤيديه ليقول للشعب الأمريكى إنه ولئن كان لا يتفق تماماً مع ما انتهت إليه المحكمة الاتحادية العليا، إلا أنه يقبل بنهائية العملية finality of the process، وبذلك سلم لخصمه واعترف له بأنه الرئيس الأميركى الجديد.
لم يكن موقف آل جور يعبر فقط عن نضج ووعى وخبرة وإعلاء للمصالح العليا لبلاده، وإنما يعبر كذلك عن إدراك عميق للبدائل المخيفة للصراع على منصب الرئيس، وخطورة استدراج البلاد كلها إلى وضع كارثى. لقد جنب آل جور بموقفه هذا بلاده الانزلاق إلى دائرة العنف فى ظل حالة من الانقسام الشديد حول شرعية الانتخابات ونتائجها.
ولذلك لم يكن غريباً أن يحصل صاحب هذا الموقف الوطنى الشجاع والنبيل بعد سنوات قليلة على جائزة نوبل للسلام عن جهوده فى حماية البيئة، والتنبيه إلى خطورة قضية الاحتباس الحرارى، وعلى الجانب الآخر لم يكن غريباً كذلك أن ينتفض الشعب الأمريكى بعد سنوات حكم إدارة بوش الابن، فيأتى بأول رئيس أمريكى أسود من خارج القواعد المعروفة والمحددة سلفاً لمن يحكم الولايات المتحدة الأمريكية. فالشعوب دائماً ما تملك الاختيار للتغيير وفرض إرادتها، وتصحيح المسار الخاطئ.
هذا منهج سلكه الآخرون فى حسم خلافاتهم حول نتائج الانتخابات الرئاسية، وأرجو أن يكون فيه ما يفيد، فالحكمة ضالة المؤمن، والذكرى تنفع المؤمنين.
* عضو هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا