الكواكبى كتب قبل أكثر من مائة عام كلمات ما زالت صالحة لأوضاعنا الراهنة. قال: «إن الاستبداد يتصرف فى أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها، هو يقلب القيم الأخلاقية رأسا على عقب ليغدو طالب الحق فاجرا وتارك حقه مطيعا، والمشتكى المتظلم مفسدا، والنبيه المدقق ملحدا، والخامل المسكين صالحا أمينا. وتصبح تسمية النصح فضولا والغيرة عداوة والشهامة عتوا والحمية حماقة والرحمة مرضا، وأيضاً يغدو النفاق سياسة والتحايل كياسة والدناءة لطفا والنذالة دماثة، وأنه -أى الاستبداد- يُرغم حتى الأخيار من الناس على ألفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان، وأنه يعين الأشرار على إجراء غىِّ نفوسهم آمنين من كل تَبِعة، ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح».
ليتنا نتدبر فى هذه السطور عند التفكير فى إصلاح جامعاتنا. مصر الجديدة التى نريدها لا بد أن يكون عماد نظامها التعليمى هو الأخلاق، أى لا بد أن نهتم ببناء إنسان مصرى جديد، وأن تكون الأخلاق فى قلب هذا النظام، فلا نهضة حقيقية بلا أخلاق وبلا قيم.
نريد إعادة الأخلاق إلى الجامعات حتى يظهر لدينا أستاذ جامعى يحرص على بناء ذاته جيدا، ويحرص على عقول طلابه ويساعدهم على اكتساب مهارات التحليل والنقد بدلا من الحفظ والتلقين، ويمثل قدوة للطلاب وليس محرضا على التسيب والفهلوة.
لا توجد جامعة رصينة فى العالم إلا وتربط بين أطرافها (الأساتذة، الطلاب، الإداريين، المجتمع) مجموعة من القيم والمبادئ والمُثل -المكتوبة والمعلنة- التى تمثل فى واقع الأمر تعاقدا بين هذه الأطراف، تعاقدا يحدد مسئولية وحقوق كل طرف ويمثل إطارا حاكما لا يمكن تجاوزه. إنها منظومة القيم أو التقاليد الجامعية أو ما صار يسمى «معايير النزاهة الأكاديمية»، وفى كل جامعة محترمة بالخارج يتم زرع هذه المنظومة القيمية بطرق مختلفة حتى يعرف كل طرف مسئولياته وواجباته ويلتزم بها، بل وهناك داخل كل جامعة قسم للنزاهة الأكاديمية مهمته المراقبة ومتابعة الأداء.
حان الوقت أن يوضع هذا الموضوع على رأس أولويات إصلاح الجامعات فى مصر وضمن مشروع الجودة المتعثر. نحتاج إلى عقد ورش عمل داخلية ومؤتمرات تنشر أهمية هذا الموضوع وتنتهى إلى وضع معايير داخلية للنزاهة الأكاديمية. فالحريات الأكاديمية التى يُطالب بها الأكاديميون لا بد أن تُمارس فيما بينهم أولاً فى كافة مراحل العملية البحثية والتعليمية، ابتداءً بالأمانة العلمية والتوثيق فى كتابة البحوث والكتب، ومروراً بتجنب المعايير غير الموضوعية فى الإدارة والتعيين والترقية والنشر، وانتهاءً بوقف عمليات التمييز داخل الجامعات، واحترام الممارسات الديمقراطية واختلاف الآراء. ويجب وضع ميثاق شرف مكتوب يضم مجموعتين من القيم والقواعد العامة، الأولى تُعنى بالبحث العلمى فى كافة مراحله بما فى ذلك وضع نظام فعّال ومُحكم للثواب والعقاب، وربطه -بشكل جادٍ ونهائى- بنظامٍ فعّالٍ لتقييم الأداء وبنظام المكافآت والعلاوات. أما المجموعة الثانية من القيم فتضم الأخلاقيات والقواعد العامة التى تحكم العلاقة بين الأساتذة والإداريين والطلاب وأصحاب المصلحة والتى تحدد حقوق ومسئوليات كل طرف. وسيتطلب هذا وجود وحدات مستقلة داخل كل جامعة للمتابعة تكون مهمتها التحقق من أى انتهاكات للنزاهة الأكاديمية، وترتبط بآليات محددة للثواب والعقاب والأداء المؤسسى، مع ربط هذه الوحدات بالمعايير الدولية المطبقة عالميا.