فى حواره مع الصحف القومية الثلاث، وفى مجال توصيف الحالة المصرية الآن، ذكر الرئيس السيسى أنه «لا يوجد ظهير سياسى للحكم، وهو أمر غير مسبوق، إنما يوجد ظهير شعبى يحقق إجماعاً وتوافقاً وتتم الآن محاولات للتعامل من أجل إضعافه والحد من فاعليته». وبالفعل هذا أمر يستحق النظر والبحث إذ كيف يمكن لنظام حكم يقوم على التعدد الحزبى كآلية ديمقراطية، وأن يفتقد إلى حزب يجتمع تحت مظلته ممن يؤمنون بأفكاره ورؤاه وسياساته التى يطبقها حين يكون حاكماً، ويستند فقط إلى تأييد شعبى ممتد فى الطبقات الاجتماعية المختلفة، ولكنه غير منظم بالمعنى السياسى والحزبى، ويعد تأييده وقبوله ورضاه حتى مع بعض الغضب والتململ إزاء تصرفات الحكم هو أساس دعم الحكم، وليس أى شىء آخر؟!.
السؤال الجوهرى هو: إلى أى مدى يمكن أن تبقى الجماهير، أو الظهير الشعبى فى حالة استنفار وراء الحكم دون أن يكون هناك إطار مؤسسى يعمل على ترشيد وتوجيه وتطوير أداء هذا الظهير الشعبى، وكيف سيكون الحال إذا انتهت فترة الرئاسة لرأس الحكم، وهذا الوضع قائم؟ وهل يمكن أن نعتبر مثل هذا الأمر فى صالح التطور نحو الديمقراطية ودعم الحياة الحزبية، أم أنها تحمل ثغرات وتحديات يجب التحسب لها منذ الآن؟
بداية، أذكّر بواقعة ربما تساعد على استيعاب كيف يفكر الرئيس السيسى فى مسألة الظهير السياسى المتمثل فى حزب، ففى أثناء زيارته إلى الصين ديسمبر 2014، التقى مع المسئول الأول عن إدارة الحزب الشيوعى الصينى فى لقاء خاص فى أحد مقرات الحزب المركزية ببكين لم يحضره الصحفيون، وكعادة المتحدث الرسمى لرئاسة الجمهورية السفير علاء يوسف، وبعد نهاية اللقاء اجتمع بالإعلاميين والصحفيين وشرح لهم نبذة مختصرة عما دار فى اللقاء، وذكر أن المسئول الحزبى الصينى طرح على الرئيس فكرة أن ينشئ حزباً سياسياً يساعده على الحكم، وأن الحزب الشيوعى الصينى على استعداد أن يساعد فى تدريب كوادر الحزب المصرى حال إنشائه لا سيما فى التواصل مع القواعد الشعبية، فما كان من الرئيس السيسى إلا أن قال إنه من المبكر التفكير فى هذا الأمر الآن (أى نهاية ديسمبر 2014)، وهى إجابة تحمل معنيين، الأول أن الرئيس يفكر بالفعل فى إنشاء حزب، ولكن الإعلان عنه والبدء فى إنشائه هما مسألة وقت مناسب قد يكون بعد عام أو عامين أو أكثر، أما المعنى الثانى فهو أن الرئيس عازف بالفعل عن إنشاء حزب سياسى وأنه يكتفى بالتأييد الشعبى. ونظرياً وعلى سبيل الاجتهاد يمكن تفسير هذا العزوف الرئاسى إما أولاً بالخوف من تكرار تجربة الحزب الوطنى بكل ما لها وما عليها ومن تأثيراتها السلبية على تأييد المواطنين، وإما ثانياً بالتحسب من تأثير إنشاء حزب يكون الرئيس مُؤسسه أو المنشئ له على مجمل الحياة الحزبية الوليدة والتى تواجه تحديات جمة، وإما ثالثاً أن الرئيس لا يؤمن بالأحزاب أصلاً ولا يرى فائدة لها، وبالتالى يكتفى بالتأييد الشعبى بعفويته وتلقائيته، وإما رابعاً أن الرئيس السيسى يرى أن إنشاء حزب سوف يشكل قيداً على حركته، فقد يستقطب الحزب رموزاً من كل الفئات، ثم تطالب بما تراه ثمن وقوفها مع الرئيس، وهو أمر محل رفض مسبق.
وأياً كان التفسير، فإن الظهير الشعبى أو المساندة الشعبية العفوية القائمة على علاقة شعورية ذات طابع خاص بين الرئيس وفئات عديدة من الشعب، وإن كان لها بريق وتأثير خاص، فلها أيضاً حدود فى الفاعلية ولها سقف سوف تصل عنده فى لحظة ما، وقد يكون هذا السقف ومهما كان عالياً أقل من المطلوب لدعم الحكم واستقراره. ولنا فى أداء البرلمان مع احترامنا الكامل لكل الأعضاء، ما يثبت أن غياب الحزب القائد القوى المسنود بتأييد جماهيرى يؤدى بالضرورة إلى أداء باهت وأقل من المطلوب، ولعل أبرز ما فيه هو الغياب المتكرر للنواب وعدم اكتمال النصاب القانونى لعقد الجلسات العامة حتى المقررة للقوانين المهمة كالموازنة العامة للدولة، وبيان الحكومة ومشروعات القوانين المكملة للدستور وغير ذلك.
وفى ظنى أن تخوف الرئيس على الحياة الحزبية مهم، ولكن يجب ألا يكون مُغالى فيه، فقد مر الآن ما يقرب من خمس سنوات بعد اختفاء نظام مبارك، وفتح المجال أمام الأحزاب للتحرك وإثبات الوجود والفعالية، ولكن الحصيلة تبدو هزيلة للغاية. ومن المؤكد أن الأحزاب التى لا تنشأ فى مناخ متساوٍ لا يفرق بين حزب وآخر تفقد فرصة العدل فى التواصل بحرية مع الشارع والمواطنين، وبالتالى تفقد فرصة التطور الطبيعى فى اكتساب الشعبية، وفى الوصول إلى الحكومة سواء بالمشاركة فيها أو تشكيلها. لكن من جانب آخر هناك ضرورة لوجود حزب قائد فى المجتمع، إن أُحسن إنشاؤه وأُبعد عن الاندماج القسرى مع الإدارة والمحليات ومراكز القوى فى المجتمع، وبُنى بحيث يكون بوتقة لبناء الكوادر السياسية، وأن يتحرك جماهيرياً فى ظل منافسة مشروعة مع الأحزاب الأخرى، فمن المرجح أن ينعكس ذلك على مجمل الحياة الحزبية، ويجعل الحكم مستنداً إلى ظهير شعبى منظم يتسم بالحيوية والقدرة على التجديد الذاتى من خلال كوادره وأعضائه.
الحالة المصرية الآن.. أنه لا يوجد ظهير سياسى للحكم وهو أمر غير مسبوق. إنما يوجد ظهير شعبى يحقق إجماعاً وتوافقاً. وتتم الآن محاولات للتعامل معه من أجل إضعافه والحد من فعاليته تمهيداً لفرض أهداف لم تتحقق فى الدولة المصرية خلال السنوات الخمس الماضية. الهدف هو شق الكتلة الوطنية من أجل إضعافها. نعم أنا مقاتل، لكن ظهر المقاتل وسنده هو شعبه. يظل يقاتل طالما الشعب فى ظهره، فإذا ما تخلى عنه. لا يستطيع القتال. المقاتل عنده كبرياء وعزة وشرف وهذه هى ذخيرته. لا يقبل بأن يستمر فى القتال إذا ما نزعت منه.
ما يهمنى هو أن نجابه التحدى معاً كتلة وطنية صلبة. وأن نصبر على نضج التجربة المصرية لتنهض وتنجح، وأننى أسجل كل التقدير والاحترام لوعى الشعب المصرى، فقد كشف عن قدرة مذهلة على الفهم والتقييم والفرز، فبرغم كل محاولات تغييب الوعى وتزييف الحقائق. أثبت المصريون وعياً كبيراً بفضل توليفة أفرزها الميراث الحضارى والإنسانى والذهنية المصرية.