الفقية الدستوري جابر جاد نصار يكتب: الفرصة الأخيرة: العدالة الاجتماعية.. أو الانهيار
كان وما زال مطلب العدالة الاجتماعية درة أهداف الثورة المصرية، حيث علت هتافات الشعب فى مواجهة النظام تطلب العيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.. والحق أن المتدبر فيما سطرته الثورة من أهداف يدرك تماماً أن هذه الأهداف تدور كلها حول فكرة «العدالة الاجتماعية».
إن كفالة الحق فى العدالة الاجتماعية بالتزام الدولة ونظامها السياسى باحترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها هو السبيل الذى يوفر العيش والكرامة والحرية. فإذا تفشى الظلم والاستئثار بالسلطة والثروة، فإن بنيان أى سلطة لا بد أن ينهار سريعاً.
والمتابع لأداء النظام السياسى فى مصر المحروسة فى العقود الأربعة الماضية يجد أن هذا النظام قد تخلى بصورة متعمدة عن فرض آليات لتحقيق العدالة الاجتماعية وإنصاف الفقراء سواء فى السياسة أو الاقتصاد. وبدا أن النظام يتجه إلى تأسيس دولة الأغنياء التى تتداول السلطة والثروة بين فئة قليلة أدارت ظهرها لعموم الشعب بعد أن عم فسادها وإفسادها فى ربوع الوطن.
وبلغت هذه السياسة أوج تألقها فى السنوات العشر الأخيرة حين بدأ النظام السياسى فى هدم كل ما ورثه من أطر سياسية واقتصادية واجتماعية يمكن أن تلعب دوراً مهماً فى تدشين العدالة الاجتماعية وتحقيق حماية معقولة ومقبولة للطبقة الوسطى المصرية التى كانت وقود نهضة الأمة وعصب تقدمها حيث تمثلت هذه الطبقة فى الفلاحين والعمال والموظفين وصغار المستثمرين، الذين -وعلى مدار سنوات طوال- قدموا للدولة ونظامها سواعدهم، وأفكارهم، وابتكاراتهم، وحاصل جهدهم، وأسهموا فى تقدمها وتطورها. ولكن للأسف لم يجدوا فى مقابل ذلك إلا التجاهل وسياسات التجويع والإفقار والاستئثار بممارسة السلطة واكتناز الثروة وحجبها عن عموم الشعب.
لقد نجح جمال عبدالناصر فى فرض منظومة حمائية بعد ثورة يوليو أدت إلى تماسك الطبقة الوسطى فى مصر فأصبحت هذه الطبقة هى صمام الأمان فى الاتجاه نحو نهضة الوطن حيث كان التعليم المجانى هو الفرصة الذهبية لتغيير واقع هذه الطبقة فأصبح ابن العامل والفلاح والموظف البسيط أستاذاً جامعياً وطبيباً ووزيراً ورئيساً للوزراء ورئيساً للجمهورية.
ومن ثم كان ارتداد النظام السياسى الحاكم عن هذه المكتسبات الاجتماعية لعموم الشعب وإهماله للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو ضمانها لمواطنيه سبباً كافياً لتراكم الغضب بين طبقات الشعب لا سيما الشباب فيه الذى وجد أن الأفق السياسى والاقتصادى والاجتماعى أمامه قد أغلق تماماً.
ولذلك كانت سعادتى غامرة حين دعيت إلى مؤتمر «مستقبل العدالة الاجتماعية فى مصر فى ظل نصوص الدستور الجديد»، والذى دعت إليه الهيئة القبطية الإنجيلية والذى ضم كوكبة لامعة من المختصين فى هذا الشأن ومن كافة الاتجاهات السياسية. ولقد كان الاتفاق واضحاً بين الجميع على أهمية تحقيق العدالة الاجتماعية بآليات سياسية وقانونية واضحة وعاجلة لأن ذلك هو الحل الوحيد لحالة الاحتقان الشديدة التى تعيشها الدولة المصرية.
والحقيقة أن المناقشات التى دارت فى المؤتمر أجمعت على أن المشرع الدستورى بعد الثورة قد فشل يقيناً فى فرض منظومة دستورية محترمة لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية حيث جاءت النصوص الدستورية فى هذا الإطار عامة دون تحديد فلم تنجح فى فرض التزامات محددة على الدولة بل إن هذا التنظيم جاء فى كثير من المواضع أكثر سوءاً مما كان فى دستور 1971 فضلاً عن قصور هذا التنظيم الدستورى عن تحديد هيئة أو جهة تكون مختصة بتفعيل هذه الحقوق ومراقبة التزام سلطات الدولة بها.
إن تخلى الدولة عن دورها فى حماية الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية بل والعمل على مصادرتها وتآكلها وتجفيف منابعها. وذلك ببيع المصانع والشركات وتخصيصها وفق صفقات بيع فاسدة، وفرض البطالة على العمال وتسريحهم وحرمانهم من وظائفهم والإلقاء بهم على قارعة الطريق دون حماية أو تأمين أو توفير فرص عمل جديدة لهم. أدى إلى كوارث سياسية واجتماعية واقتصادية. ولقد اتضح أن النظام الحاكم يتخلى عن مكون مهم من مكونات المجتمع المصرى وهو العمال حين تآمر على مصانعهم ومزارعهم وشركاتهم وأدار ظهره لهم بصورة لا أتصور أنها حدثت فى تاريخ الدول والشعوب.
إن أهم مكونات الحضارة المصرية منذ القدم كان الإنسان المصرى العظيم الذى صنع حضارة أبهرت العالم. ولقد تفنن هذا النظام فى العمل على انكسار هذا الإنسان وتجريده من إنسانيته وكرامته بصورة لم يشهد لها التاريخ مثالاً واحداً مماثلاً لما حدث فى مصر المحروسة. وكأن مصر دائماً هى «بلد العجائب»، وتوازى مع ذلك الانتقام من الفلاحين بتهميشهم، وتجويعهم، وإفقارهم، والتآمر على نواتج جهدهم حتى تباع بثمن بخس جنيهات معدودة لا تؤدى إلى شىء سوى الإفقار والتجويع والإذلال.
ولم يكن عموم الموظفين فى مصر أسعد حالاً فقد نالهم التهميش والإفقار والإذلال حين سد هذا النظام أمامهم أبواب العيش الكريم بمرتبات لا تفى بالحد الأدنى المعقول والمقبول إنسانياً وظل هذا الموظف يناضل فى سبيل حد أدنى للأجور لا يتجاوز بضع مئات من الجنيهات لا تكفى شيئاً وسط موجات الغلاء التى تضرب جموع الشعب صباح مساء.
كل ذلك كان وقوداً جاهزاً للاشتعال وبه قامت الثورة المجيدة تطالب بالعدالة الاجتماعية والعيش والكرامة والحرية، وتفاءل الجميع بما حققته الثورة فى أسابيعها الأولى من خلع رأس النظام وأمل الجميع فى رجوع حقوقهم المسلوبة ولم يكن الأمر يتطلب غير إجراءات قانونية وسياسية يمكن أن تقوم بها السلطة التى حكمت بعد الثورة لتهدئة الخواطر، وإثبات حسن نيتها فى تحقيق العدالة الاجتماعية. إلا أن كل هذه الآمال العريضة ذهبت أدراج الرياح مع سلطة انتقالية ممثلة فى المجلس العسكرى كان كل همها أن تحافظ على آليات نظام قد فسد فقد كان هدفها الأساسى الخروج من مأزق الثورة التى لم تؤمن بها أبداً بأقل قدر من الخسائر فى الأشخاص والمؤسسات، وهو الأمر الذى نجحت فيه إلى حد كبير.
ولم يتغير الأمر كثيراً مع السلطة المنتخبة بعد الثورة سواء فى البرلمان أو فى رئاسة الجمهورية. فلم تنجح هذه السلطة فى بث الطمأنينة أو اتخاذ إجراءات عاجلة لصالح الطبقات الفقيرة والمهمشة.
فعلى الصعيد السياسى بدت السلطة الجديدة فى تحركاتها عاجزة وحائرة أخفقت فى كل شىء فلم تحقق أى وعد من وعودها وإنما تخبطت فى قراراتها حتى تولد لدى الكثيرين إحساس عميق بأن حرص السلطة الجديدة على الاستئثار بمغانم ومنافع السلطة لصالح حزب أو فئة أو جماعة معينة يغلب على العمل لصالح وطن جريح ومواطن منهك تأخذ مصاعب الحياة بخناقه فقد كان ينتظر إجراءات عاجلة لجبر خاطره وتحقيق العدالة الاجتماعية وحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التى أكلها الاستبداد والفساد على مدار عشرات السنين.
صحيح أن الوقت الذى مر من عمر هذه السلطة لا يقاس أبداً بعمق الأزمة وخطورتها واتساعها. ولكن كما يقول المصريون فى أمثالهم الشعبية (الجواب دايماً يبان من عنوانه)، فقد كانت الإجراءات المتسرعة والغريبة التى اتخذها الرئيس وحكومته ومنها بالتأكيد الحرص على وجود حكومة ضعيفة غير قادرة على الفعل أو رد الفعل وكأنها ستر وساتر لمن يمارس السلطة الحقيقية. فقد كانت هذه الإجراءات المتسرعة والتى بدأت بالإصرار على تحدى أحكام القضاء والعدوان على استقلاله بقرارات متسرعة بدون هدف جدى أو جدوى حقيقية تصب فى خانة مصلحة الوطن كله، وليس فقط فى مصلحة الأحباب والأتباع والأهل والعشيرة. إن هذه الممارسة غير الرشيدة للسلطة هى التى فجرت الموقف وأدت بهذا الشعب وثواره إلى إدراك أنهم أمام سلطة منفصلة حقيقة عن واقعهم لا تعبأ بإشكاليات هذا الواقع. بل تأتى بتصرفات سياسية غير عاقلة وغير ناضجة تزيد الأمور اشتعالاً.
ومن الناحية الاقتصادية فقد بان منذ الوهلة الأولى أن هذه السلطة الجديدة ليس لديها رؤية فى الانحياز لفقراء هذا الوطن وتلبية احتياجاتهم، بل كانت تسعى إلى فرض حلول اقتصادية عاجزة، بدت أنها نفس الحلول التى كان النظام السابق يسعى لفرضها مثل القروض والضرائب وزيادة الأسعار ورفع الدعم عن سلع أساسية، ومما زاد الأمر سوءاً هو عدم السيطرة على سعر الجنيه فى مقابل العملات الأخرى بما يؤدى إلى زيادة تكلفة الحالة المعيشية لعموم الشعب.
فهذا الارتفاع فى سعر الدولار فى مقابل الجنيه يؤدى إلى مشكلة اجتماعية كبيرة لفقراء هذا الوطن الذين يعيشون يومهم وليلتهم على طبق فول وكوب شاى وسيجارة يحرقون عبر دخانها آلامهم وإن أضرت بصحتهم.
هل تدرك الحكومة مدى تأثير ذلك على الأسعار إذا كنا نستورد 50% من القمح و70% من الفول و90% من الزيت و60% من البوتاجاز و100% من التبغ و100% من الشاى و50% من السكر؟
هل تدرك الحكومة أن محيط القاهرة يزخر بثلاثة ملايين مواطن مصرى يسكنون عشوائيات حرموا فيها من أبسط حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية بفعل سلطة تناست دورها والتفتت عنه، وأغرقت نفسها بتوزيع المناصب والوظائف والمغانم على الأهل والأحباب والأنصار؟ والآن فإن هذه الملايين إذا لم تجد طبق الفول أو بضعة أرغفة فماذا يمكن أن تفعل؟
إن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحتاج دائماً إلى دور إيجابى للسلطة فى حمايتها وضمان تحققها فالدولة هى التى تلتزم بها. وفضلاً عن ذلك فإنه يجب احترام مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص بين المصريين. وهو الأمر الوحيد الكفيل بتهدئة الخواطر ونزع فتيل الأزمة. أما الانشغال عن الشعب بالأهل والأحباب والسعى لتمكينهم من مفاصل الدولة وهم غير أهل ولا أكفاء لذلك فإن ذلك شر مستطير وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين قال: «إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة...».
وإلى أن تأتى الساعة التى علمها عند ربى.. . انتظروا ثورة الجياع التى لن تبقى ولن تذر. وفى محيطها لن يأمن حاكم مهما علت أسوار قصره.
لماذا لم يسأل الرئيس نفسه وهو العابد الناسك: «لماذا كان سيدنا عمر بن الخطاب ينام تحت الشجرة بلا حرس ولا حراسة.. ولماذا هو يعلى فى أسوار الاتحادية ويسير فى ركب سيارات يتجاوز الأربعين سيارة؟».
لأن سيدنا عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) وقف على المنبر يخاطب بطنه فى عام الرمادة ويقول لها «قرقرى أو لا تقرقرى فلن تذوقى اللحم حتى يأكله فقراء المسلمين»، لم يكن سيدنا عمر يحتاج إلى حراسة ولا أسوار لأنه أشاع العدل وعمل به فكان الخليفة الذى حكم فعدل فأمن فنام بلا حراسة.
سيدى الرئيس هل تنام جيداً بين حراسك وخلف أسوارك؟. أشك فى ذلك.
يا سادة عودوا إلى رشدكم وأعيدوا السلطة إلى أهلها شعب مصر فهم الأحق بمنافعها وفق معايير تحترم الكفاءة ومبادئ المساواة وتكافؤ الفرص والشفافية والعلانية.
والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.