الحياة فى عزبة «الخنازير» فاصل من المعاناة يبدأ مع «الاسم»
«صباح» وأسرتها.. عملهم فى جمع القمامة وصمهم بالاسم الذى يكرهونه
طريق ملىء بالغبار تشغله التكاتك والسيارات، يبدأ بمجرد عبور مزلقان السكة الحديد الذى يمر منه القطار بصوته الصاخب ليلقى التحية على المارة ويرحب بالركاب والزائرين، عمارات وبيوت متراصة على جانبَى الشارع بدت على مستوى راق تزينها الشجيرات والورود، بمجرد الانحدار إلى اليمين، يبدأ طريق جديد تنبعث منه روائح كريهة، ينتهى بأرض متسعة اكتظت بالقمامة والكرتون يتطاير فوقها الذباب، بيوت صغيرة اقتصر جميعها على طابق واحد وضع أمام كل منها عربة كارو، يجتمع حولها مجموعة من الأفراد انشغلوا بفحص القمامة وفرزها.
عمل سكانها فى جمع القمامة وصمهم بالمسمى وأنساهم اسمها الحقيقى «الملاحة».. وحرمهم من حقهم فى الخدمات الأساسية من كهرباء وصرف صحى
عزبة «الخنازير» فى القلج بالقليوبية الاسم الذى يثير غضب قاطنيها بمجرد النطق به، من يناديهم به يعتبرونه عدواً لدوداً يسخر منهم، رغم ارتباط ذلك المسمى بعملهم الذى يتمثل فى القمامة إلا أنهم ينكرونه تماماً، تظهر من بعيد عربة كارو تقودها «صباح»، تحتوى على أكياس قمامة يجلس فوقها طفلان صغيران، تتوارى خلف ابتسامتهم رائحة القمامة الكريهة، تعيش «صباح» برفقة عائلتها التى تتألف من زوجها وحفيديها، تقول: «عمرى كله فى العزبة، بيتنا كان من الطوب النى وربنا كرمنا وبنيته أنا وجوزى بالطوب الأحمر، الزبالة هى مصدر رزقنا من زمان، بطلع مع أحفادى على أى مقلب زبالة نقلب رزقنا ونيجى».
«إسلام»: بقالنا 20 سنة من غير ميّه والكهربا سارقينها والصرف الصحى مش موجود
تبدأ المرأة الستينية يومها مع طلوع الشمس، تتوجه من المنزل برفقة زوجها وأحفادها، يتولى زوجها قيادة العربة، بينما تلتفت هى للبحث عن مقالب القمامة، وينشغل أحفادها باللهو واللعب، مشقة عسيرة تتكبدها الأسرة كل يوم تنتهى مع حلول أذان المغرب، ليعودوا إلى منزلهم بعد أن تكون الأتربة كست ملابسهم وصارت متسخة، ليبدوأ رحلة شقاء جديدة تتمثل فى فرز القمامة لبيع ما يصلح منها، تقول: «عندى الفتاق وبشتغل بالعافية بس ربنا بيقدرنى عشان أصرف على عيال بنتى، مالهمش حد غيرى، أمهم اطلقت من أبوهم بعد ما اكتشفت إنه متخلف عقلياً بعد 7 سنين، راحت اتجوزت وسابتهم وهو مانعرفش طريقه، خدت العيال معايا بدل ما يتشردوا فى الشوارع وبصرف عليهم من الزبالة، بس كل ما أروح أقدم ليهم فى المدرسة يرفضوا، عاوزين أمهم أو أبوهم بشهادات الميلاد».
رغم صعوبة العمل الذى تقوم به صباح كل يوم فإنها تتمسك به، فلا يكلفها مالاً ولا يجعلها خاضعة لسلطة أحد وفق قولها، وتضيف: «بنلمّ من الزبالة بلاستيك وكرتون وحديد وأى حاجة تنفع للبيت بنستخدمها، كنا عايشين على اللمبة الجاز زمان، بعدين سرقنا كهربا عشان مش معانا فلوس ندخّلها، وكمان الشوارع هنا ضيقة وهتتقفل مع البيوت لما تتبنى مش هينفع الكهربا تدخل، ده كان كلام الوحدة المحلة لينا لما رحنا سألنا»، على الجانب الآخر يقف عم «صبحى عبدالحميد»، يرتدى جلابية تلاشى لونها خلف البقع التى نقشت عليها، يمشى متثاقلاً فيلوذ إلى الحائط كلما شعر بالتعب ثم يجلس ليأخذ قسطاً من الراحة ليعاود استكمال عمله بعد بضع دقائق، يقول: «من يوم ما اتولدت وانا شغال فى الزبالة، ورثتها عن أبويا وأمى، اشتغلت فترة فى فرنة بهدلونى وكلوا حقى وماكنتش باخد فلوسى كاملة، سيبتها ورجعت للزبالة تانى، عايش مع مراتى وابنى وبرضه شغالين فى الزبالة بس كل واحد بيسرح فى مكان غير التانى عشان مانقطعش على بعض».
رغم سوء الحالة الصحية لـ«صبحى» فإنه يفضل العمل بدلاً من المكوث فى المنزل حتى لا يطلب المساعدة من أحد: «بشوف بعين واحدة بعد ما الدكتور كتب ليا على علاج غلط، وعربية داست على رجلى وزيت مغلى وقع عليها مش بقدر أمشى كويس، لما بتعب بريّح شوية وبقوم أكمّل شغلى تانى، بشتغل عشان أجيب لنفسى العلاج لأن ابنى خاطب وعاوز اللى يساعده»، يلتقط منه أطراف الحديث ابنه «إسلام» الذى يتولى جمع القمامة بمفرده، يبدو طويل القامة ذا شعر كثيف يرتدى ملابس بالية تشير إلى عمله بالقمامة، يقوم بمساعدة والده بين الحين والآخر عندما يشعر بالتعب: «اتولدت فى العزبة لقيت كل الناس شغالة فى الزبالة، وانا بساعد نفسى عشان أتجوز لأن أبويا مريض وأمى مش بتقدر تشتغل، الناس سمونا عزبة الخنازير عشان متضايقين من الزبالة اللى موجودة وكل شوية يتخانقوا معانا عشان الريحة، طيب ده أكل عيشنا، نعمل لهم إيه غصب عننا، محدش بيحب يعيش فى مكان مش نضيف، العزبة رزقها كله من الزبالة وناس كتيرة عايشة منها».
يؤكد الشاب العشرينى أن السكان المجاورين للعزبة هم من أطلقوا هذا الاسم عليهم لكنهم لا يعترفون به، لذلك قاموا بإطلاق اسم آخر عليهم يسمى عزبة «الملاحة»، يقول: «إحنا عزبة الملاحة مش الخنازير، الناس اللى جنبنا عيشتهم مرتاحة ومش محتاجين حاجة عاوزينا نشيل الزبالة ونبطل نشتغل فيها عشان هما يرتاحوا ومش مشكلة بقى إحنا نصرف منين ولا نعيش إزاى»، حالة من الغضب بدت واضحة على ملامح الشاب العشرينى عندما تذكر الكلمات التى وصفها بـ«السخيفة» التى وجهها إليهم بعض السكان المجاورين.
لم تقتصر معاناة عزبة «الخنازير» على لقمة العيش فقط، بل امتدت أيضاً لتصل إلى مشكلة المياه التى ما زالت مستمرة منذ 20 عاماً مضت، فى مقدمة العزبة تقف «عبير» برفقة زوجها «الأمير» ينتظران مجىء «السقا» الذى يأتيهم كل يوم على «تروسيكل» حاملاً المياه فى خزانات صغيرة، ليبيعها لهم، تقول عبير: «العزبة هنا كلها مشاكل حتى أكل عيشنا فيه مشاكل، بقالنا 20 سنة عايشين من غير ميّه، ولما رحنا قدمنا عليها قالوا الأراضى الفاضية أصحابها هيبنوا عليها والمواسير مش هتنفع فى الشوارع، بنشترى زجاجة الميه بـ3 جنيه وبيمر علينا أيام بنبقى هنموت من العطش، ولو الراجل مجاش بنركب مواصلات لحد الرشاح بنملا ميه من هناك وبيكون عليها طوابير وبنتبهدل، وساعات بنملا من عند حد من الجيران».
تقضى عبير يومها فى الانشغال بجمع كميات المياه تكفى احتياجات المنزل، بينما يذهب زوجها إلى مقالب القمامة بحثاً عن رزقه: «عايشة أنا وجوزى فى أوضة على قدنا، هو بيتشغل على قد ما بيقدر عشان عنده ربو وبيتعب ومش بياخد علاجه بانتظام، لو ماكنتش حامل كنت اشتغلت مكانه وبنضظر نستلف لحد ما ربنا يبعت من عنده، نفسى الكهربا تدخل العزبة ومشكلة الميه تتحل ونعيش زى باقى خلق الله».
محاولات كثيرة قام بها سكان العزبة على أمل حل مشكلة المياه، إلا أن الوضع بقى كما هو، تؤكد «أم خلود» أن العزبة ليس بها صرف صحى، حيث يعتمدون على الطرنشات التى تتسبب فى طفح دائم للمجارى: «رحنا الوحدة المحلية نقدم على مجارى قالوا لنا لسه، بقالنا 6 شهور متابعين معاهم وكل مرة نفس الرد لحد ما زهقنا، لما المجارى بتطفح بنجيب واحد يسلكها على حسابه وبياخد فلوس كتيرة بحجة إن العزبة بعيدة، مفيش حد بيبص لنا ولا فكر يشوف لنا حل، حتى بتوع مجلس النواب أول ما قعدوا على الكراسى ماشوفناش وش واحد فيهم تانى».