«آفة» الناس فى بلادى «الكذب»، حكاماً ومحكومين، أثرياء وفقراء، ولأن الكذب هو أصل الرذائل، فلا صلاح لمجتمع يتسيده الكذب، ويتصدر مشهده الكاذبون، هكذا أجمع العلماء والعقلاء فى كل زمان ومكان، لكن الأعجب فى زماننا أن ينتظر الناس إصلاحاً من «الكذابين»، وهو لن يأتى أبداً، إلا إذا أمسكت بـ«السراب» بين يديك، أو إذا أفلت «الجمل من سم الخياط»!!!.
وهكذا تقُسم لنا حكومة المهندس شريف إسماعيل ليل نهار، بأغلظ الأيمان، أنها تضع محدودى الدخل «فى عينيها»، ثم تتوالى القرارات والقوانين التى تؤكد لعامة الناس قبل خاصتهم أن المتضرر الأكبر منها هم «محدودو الدخل»، منذ شهرين أقسمت الحكومة على لسان وزير المالية ووزير التخطيط، أنها لا تفاوض صندوق النقد الدولى على أية قروض، لتأتى بعثة الصندوق وتمكث أسبوعين لتعلن من مقر مجلس الوزراء أنها أنهت التفاوض مع الحكومة المصرية على قرض قيمته 12 مليار دولار، ويخرج وزير المالية، ليعلن أن أول دفعة من القرض ستصل بعد 4 أو 6 أسابيع.. فبماذا نسمى هذا؟ قبل وصول بعثة الصندوق حذرنا وحذر غيرنا، من تبعات القرض الذى لا يمنحه الصندوق لنا لوجه الله، وقلنا إن شروطه القاسية معروفة سلفاً، ولن تحل مشكلة اقتصاد يعانى من «أزمة إدارة وفساد»، وليس من أزمة موارد كما تقول الحكومة، وها نحن على أعتاب موجة غلاء جديدة بسبب ضريبة القيمة المضافة، وزيادة الضرائب، كما هو معروف، أحد مطالب الصندوق لإتمام الإصلاحات المالية التى يشترطها دوماً.
فى عام 691 هجرية، وفى قرية ببلاد الشام، ولد طفل، صار له شأن كبير، أصبح إمام عصره، وهو المجدد ابن قيم الجوزية، حذر الناس فى كل عصر من الكذب متتبعاً «دورة الكذب» فى النفوس يقول «ابن قيم» فى كتاب «الفوائد»: «إياك وَالكذب فَإِنه يفسد عَلَيك تصور المعلومات على مَا هِىَ عَلَيهِ، وَيفسد عَليك تصورها وَتَعلِيمهَا للناس، فَإِن الكَاذِب يصور الْمَعْدُوم مَوْجُوداً وَالْمَوْجُود مَعدُوماً وَالحق بَاطِلاً وَالبَاطِل حَقاً وَالخَير شراً وَالشَّر خيراً، فَيفسد عَليهِ تصَوره وَعلمه عُقُوبَة لَه، ثم يصور ذَلِك فِى نفس المُخَاطب المغتر بِهِ الراكن إِلَيهِ فَيفسد عَلَيهِ تصَوره وَعلمه، وَنَفس الكَاذِب معرضة عَن الحَقِيقَة المَوجُودَة نزاعة إِلَى العَدَم مؤثرَة للباطل، وَإِذا فَسدت عَليهِ قوة تصَوره وَعلمه التِى هِىَ مبدأ كل فعل إرادى فَسدت عَلَىِ تِلكَ الأَفعَال وسرى حكم الكَذِب إِلَيهَا فَصَارَ صدورها عَنه كصدور الكَذِب عَن اللِّسَان، فَلَا ينتفع بِلِسَانِهِ وَلَا بِأَعمَالِهِ وَلِهَذَا كَانَ الكَذِب أساس الْفجُور كَمَا قَالَ النبِى إِن الكَذِب يهدى إِلَى الفُجُور وَإِن الفجُور يهدى إِلَى النار، وَأول مَا يسرى الكَذِب من النفس إِلَى اللسَان، فيفسده ثم يسرى إِلَى الْجَوَارِح فَيفسد عَلَيهَا أَعمالهَا، كَمَا أفسد على اللسان أَقْوَاله فَيعم الكَذِب أقوَاله وأعماله وأحواله فيستحكم عَليهِ الفساد ويترامى داؤه إِلَى الهلكة إِن لم يدرِكهُ الله بدواء الصدق يقلع تِلكَ من أَصلهَا. وَلِهَذا كَانَ أصل أَعمال الْقُلُوب كلهَا الصدق وأضدادها من الرِيَاء وَالعجب وَالكبر وَالفَخر وَالخُيَلَاء والبطر والأشر وَالعجز والكسل والجبن والمهانة وَغَيرهَا أَصلهَا الكَذِب، فَكل عمل صَالح ظَاهر أَو بَاطِن، فمنشؤه الصدق وكل عمل فَاسد ظَاهر أَو بَاطِن، فمنشؤه الكَذِب، وَالله تَعَالَى يُعَاقب الكذاب بِأَن يقعده ويثبطه عَن مصَالِحه ومنافعه، ويثيب الصادِق بِأَن يوفقه للقِيَام بمصالح دنيَاه وآخرته، فَمَا استجلبت مصَالح الدنيَا وَالآخِرَة بِمثل الصدق، وَلَا مفاسدها ومضار هما بِمثل الْكَذِب، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيهَا الذِينَ آمَنوا اتقُوا اللهَ وَكونوا مَعَ الصادِقين)، وَقَالَ تَعَالَى: (هَذَا يومُ ينفَعُ الصادِقين صدقهم)، وَقَالَ: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمر فَلَو صَدقُوا الله لَكَانَ خَيراً لَهم).