فى ديسمبر من العام 2007، كان الرئيس الفرنسى السابق ساركوزى أحد أكثر العناوين جاذبية فى الصحافة الفرنسية والعالمية، ولم يكن هذا بسبب قرارات جديدة أعلنها الرئيس، أو ارتفاع ملحوظ فى شعبيته، أو أزمة سياسية يواجهها، إنما لأنه اصطحب صديقته عارضة الأزياء كارلا برونى فى إجازة خاصة إلى الأقصر لقضاء عطلة عيد الميلاد.
كانت صورة ساركوزى ممسكاً بيد صديقته الحسناء على أغلفة المجلات، كما كانت تفاصيل زيارته، وانتقالاته، ونفقاته موضوعاً للاستقصاء والتحليل فى معظم الصحف ومحطات التليفزيون.
فإلى أى حد كان هذا الاهتمام المبالغ فيه من قبل الصحافة انتهاكاً لخصوصية هذا الرئيس؟ وهل يجوز للصحافة أن تسأل عن تفاصيل عطلة شخصية سياسية عامة؟ وعن نفقاتها؟
بصيغة أخرى، ما الحد الفاصل بين خصوصية السياسى وحرية التعبير، أو أين تقف الصحافة فى ملاحقتها لأخبار الشخصيات العامة بداعى الحفاظ على الخصوصية؟ ومتى يجب أن تواصل وتستمر فى البحث والنشر؟
يبدو أن بعض المعالجات الصحفية لرحلة ساركوزى إلى الأقصر فى 2007 كان متسقاً مع الاعتبارات المهنية، وبعضها الآخر لم يكن كذلك.
إن المعالجات الإعلامية التى تنتهجها صحافة الإثارة، والتى تخترق خصوصية المشاهير بهدف جذب الجمهور وتحقيق الرواج، من دون احترام قاعدة الخصوصية، هى معالجات ممجوجة وضارة بحرية الصحافة وحقوق الإنسان فى آن واحد.
لكن المعالجات المهنية، التى تفتئت على حق الخصوصية أحياناً، بسبب اعتبارات موضوعية تتقاطع مع المصلحة العامة، يمكن أن تكون مقبولة إذا جرت وفق شروط محددة.
فقد كان ساركوزى فى تلك الرحلة بصحبة صديقته (وليس زوجته)، كما كان وصوله إلى مطار الأقصر على متن طائرة خاصة، أعارها له صديقه الملياردير فانسان بولور، فيما كانت الإقامة على نفقة الحكومة المصرية.
لم يكن من حق الصحافة الفرنسية أن تتدخل فى موضوع صداقة الرئيس لعارضة أزياء سابقة، طالما أن تلك المسائل تقع ضمن السياق القيمى والأخلاقى المقبول وغير المُحط بالشأن فى الثقافة الفرنسية، لكن كان من حقها، بل من واجبها، أن تسأل وتبحث وتتقصى وتنشر وتذيع كل ما من شأنه أن يوضح أبعاد استعارة الرئيس طائرة من «صديق»، وقبوله الإقامة على نفقة حكومة دولة أجنبية؛ إذ إن ذلك مما يقع ضمن المصالح العامة، ولا يجوز غض الطرف عنه بداعى تقاطعه مع الشأن الخاص للرئيس.
شىء من هذا القبيل حدث مع رئيس الوزراء البريطانى الأسبق تونى بلير، الذى لاحقته الصحافة البريطانية وهاجمه نقاد وكتاب بسبب قبوله قضاء العطلة هو وزوجته وثلاثة من أولاده على نفقة الحكومة المصرية فى شرم الشيخ، فى العام 2005.
بل إن الصحافة البريطانية أظهرت اهتماماً كبيراً بطبيعة العلاقة بين عائلة بلير وعائلة روبين جيب، نجم الغناء الشعبى، الذى استضاف بلير فى عطلة بمنزله بولاية فلوريدا بالولايات المتحدة.
راحت الصحافة البريطانية تدقق فى تفاصيل تلك العطلة، والمقابل المالى الذى كان من المفترض أن يسدده بلير فى حال قام باستئجار منزل مشابه للفترة نفسها، قبل أن تبلور اتهامات وتساؤلات جدية لرئيس الوزراء، وتطالبه بالرد.
فقد سألت الصحافة البريطانية عما إذا كانت هناك علاقة بين إقامة بلير فى منزل جيب من جانب، وبين حصول هذا الأخير على وسام ولقب من الملكة بترشيح من رئاسة الوزراء من جانب آخر؟
هنا أعطى المسئول العمومى الحق للصحافة لأن تخترق خصوصيته، لأن اعتبارات موضوعية نشأت عن خلطه بين حياته الشخصية والمصلحة العامة، ومن واجب الصحافة إلقاء الضوء عليها.
ولذلك، فقد التقط مجلس العموم الخيط من الصحافة البريطانية، وراح يوجه الأسئلة لرئيس الوزراء آنذاك، فى تطور طبيعى لحالة المراقبة والفحص التى تقوم بها السلطات والصحافة فى مجتمع مفتوح وديمقراطى ورشيد.
والشاهد أن الخصوصية قيمة حيوية لا يجب انتهاكها بزعم حرية الرأى والتعبير أو حق الجمهور فى المعرفة، لكن قيام «الشخص العام» بسلوك شخصى يضر المصلحة العامة بشكل واضح، ويؤثر فى استقرار المؤسسات العامة أو يزعزع الثقة فيها، يمنح الصحافة الفرصة للتجرؤ على تلك الخصوصية.
لطالما تحدثت الدساتير، والقوانين، والعهود الدولية عن «الخصوصية»، واعتبرت أنها مصونة، ولا يجوز انتهاكها بأى حال من الأحوال.
لكن «الشخص العام»، أو الذى اختار بمحض إرادته الحرة أن «يتصدى لخدمة العموم»، يختلف عن الشخص العادى، الذى يكتفى فى دنياه بسعيه الذاتى لتأمين حياته وحياة من يعول، دون أن ينخرط فى الخدمة العامة، أو يترشح للمناصب، أو يقبل بالولاية، أو ينعم بالفخار والشهرة والمجد.
سيمكننا أيضاً أن نتفهم أن تصدر شخص ما لخدمة العامة يفرض عليه، ضمن أمور أخرى كثيرة، أن يجعل من سيرته الذاتية كتاباً مفتوحاً، وأن يجتهد فى إثبات حسن سلوكه، ونقاء سيرته، واتزان مساراته، لأن هذا مما يحسن معرفة العامة به، ومما يعضد ثقتهم فيه، ومما يسهل تخليهم له عن النهوض ببعض شئونهم، وتمثيلهم، والدفاع عن مصالحهم.
لكن ثمة خيطاً دقيقاً رفيعاً يجب أن يظل واضحاً، وأن نجتهد جميعاً فى اعتباره وعدم تجاوزه أو نسيان وجوده؛ إنه الخيط الفاصل بين الوقائع الخصوصية ذات الصلة بالمصلحة العامة، وتلك التى لا تفيد المصلحة العامة فى شىء.
فهناك عدد من الشروط الصارمة التى تتيح للجمهور معرفة وقائع تخص الحياة الخاصة لشخص عام أو لشخص عادى، وهى ذاتها الشروط التى تتيح لوسائل الإعلام تغطية مثل تلك الوقائع.
أول هذه الشروط أن تكون الصلة واضحة ومباشرة بين الواقعة الخاصة وبين المصلحة العامة، بمعنى أن يكون كشفها ضرورياً لتحقيق تلك المصلحة أو منع خطأ أو كشف فساد.
ومن تلك الشروط أيضاً أن يكون القدر الذى يتم كشفه من الحياة الخاصة للشخص الذى يتم اختراق خصوصيته هو القدر الكافى فقط لإثبات العلاقة بالمصلحة العامة، وأن يكون هذا القدر محتشماً ومقتصداً بما يكفى لتلبية الاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية السائدة فى المجتمع.
ومن أهم تلك الشروط كذلك أن يتم إيراد رأى الشخص الذى تم اختراق خصوصيته، أو من يمثله، فى ذات الحصة الإعلامية التى تم خرق خصوصيته فيها.
إن الاستناد إلى رخصة «خرق الخصوصية»، لتجريح الناس وهتك سترهم مسألة غاية فى الخطورة، خصوصاً إذا تم استخدامها من قبل هؤلاء الذين لا يراعون تلك الشروط أو لا يعرفونها.
واستناداً إلى ذلك، فقد كان من حقنا أن نرى تقرير الذمة المالية للوزير المستقيل خالد حنفى، وأن نعاين إيصالات دفع نفقات إقامته فى فندق «سميراميس»، والطريقة التى تم الدفع بها، وأن نقرر ما إذا كانت ثروته المعلنة تسمح بدفع مثل تلك النفقات أم لا، لأن هذا من مقتضيات المصلحة العامة، والشفافية، ومحاربة الفساد، حتى إن طغى على جزء من خصوصية السيد الوزير.