لم أقتنع يوماً أن التفاوت فى التقديرات والمواقف السياسية (أو غيرها) يحتم نزع الموضوعية وكامل الصواب عن المختلفين معى، أو الاستبعاد التام لإمكانية الوصول إلى قواسم مشتركة. أسجل هذا وفى ذهنى مقولات موضوعية يدفع بها إلى الواجهة دعاة وأنصار المشاركة فى الانتخابات البرلمانية القادمة. حين يصر دعاة المشاركة أن فى دوائر اليمين الدينى أو تيارات الليبراليين واليسار المعارضة، على أولوية استكمال بناء مؤسسات النظام السياسى الجديد بانتخاب مجلس النواب ودفع السياسة فى مصر باتجاه التوازن والرقابة المتبادلة بين السلطة التشريعية (البرلمان) والسلطة التنفيذية (الرئيس والحكومة)، ففى جعبتهم هنا مقولة مهمة لا ينبغى التعامل معها باستهتار. حين يؤكد دعاة المشاركة، فى دوائر المعارضة، أن الحضور داخل البرلمان، ومن ثم الاضطلاع بالمهام التشريعية والرقابية، يضفى فاعلية على مساعى تغيير القواعد الدستورية والقانونية للعملية السياسية، وكذلك على مواجهة انفراد جماعة الإخوان وحزبها بالشأن العام، ويمكن من كشف مخطط السيطرة على أجهزة الدولة والعصف بحياديتها، فهم هنا أيضاً لا يُعدمون الموضوعية والتقدير السياسى الرشيد. حين يشدد دعاة المشاركة، يميناً دينياً ومعارضة ليبرالية ويسارية، على أن المقاطعة تباعد بين الأحزاب وبين الوجود بين الناس، وتفرض الجمود على قواعدها التنظيمية والجماهيرية، وتحد من قدراتها على التطوير الذاتى، فإن الخبرات العالمية المتنوعة تعضد رأيهم. وحين يصرون على أن المشاركة، حتى وإن لم تتوافر ضمانات النزاهة والشفافية الكاملة، هى الكفيلة بالكشف وبتوثيق غياب هذه الضمانات، فلديهم فى السياق هذا الكثير من الحقائق الموضوعية المساندة. حين يذهب بعض المحللين السياسيين إلى أن الامتناع عن المشاركة فى الانتخابات يُفقد الأحزاب المقاطعة التأييد الإقليمى والدولى إلا فى حالة الانهيار الكامل لشرعية الحكم والتراجع الشديد فى شعبية الأحزاب المشاركة، وحين يؤكدون على صعوبة تفعيل المقاطعة كخيار إيجابى وتجاوز حدود إعلان الموقف ثم الانسحاب، فهم هنا يضعون أيديهم على عوامل مؤثرة فى حسم جدل المشاركة - المقاطعة، ويتعين من ثم النظر إليها بموضوعية. جميع هذه مقولات مهمة قد تدفع البعض لاختيار المشاركة فى الانتخابات البرلمانية القادمة فى مصر. تماماً كما أشرت بالأمس إلى مقولات تصب بموضوعية فى صالح المقاطعة وتدفعنى بهذا الاتجاه كغياب العدالة عن قواعد العملية السياسية وخطورة إضفاء الشرعية على انتخابات لن تُدار بصورة حيادية (فى ظل الأخونة) وانتهاكات حقوق الإنسان والصعوبة المرتبطة بالقسم على احترام دستور يراه البعض (وأنا منهم) باطلاً ومشوهاً. مقولات مختلفة وتقديرات متنوعة، وهنا وهناك موضوعية وصواب واحتمالية خطأ دوماً قائمة. ليست السياسة بمساحة للحقائق المطلقة أو الصواب الكامل والخطأ الذى لا يُغتفر (بعيداً عن أخطاء النزاهة الأخلاقية والمهنية)، وعلينا فى مصر أن نتعايش بصبر مع اختلاف المقولات والتقديرات والمواقف ونحترم الرأى الآخر ونثق فى التعددية كسُنة مجتمعية لا فكاك منها. بالغد سأسجل مجدداً رفضى لنزع الموضوعية عن تقديرات المنتمين لتيارات سياسية أختلف معها، وفى ذهنى قواسم مشتركة مع بعض أحزاب اليمين الدينى وبعض تيارات اليسار بشأن خطورة استدعاء الجيش إلى الحياة السياسية وترويج البعض للكارثة المسماة بالانقلاب العسكرى كحل سحرى لأزمة مصر الراهنة ولأخطاء الرئيس المنتخب.