الفيديو المتداول لتلك السيدة التى تحمل على كتفها رضيعاً، وتصرخ مطالبة بعلبة لبن له، يحمل رسالة واضحة إلى من يهمه الأمر. وتقديرى أنها رسالة جديرة بالفهم والاستيعاب من أجل هذا الوطن. ملمحان واضحان فى هذا الفيديو، أولهما أن السيدة قالت: «إحنا مش بنتكلم على قوطة ولا بطاطس أسعارها غليت.. إحنا بنتكلم على لبن للعيال»، وثانيهما أن السيدة كان تصرخ وتبكى بكاءً مراً فى وجه القيادات الأمنية التى كانت تجتهد فى فض التجمهر الاحتجاجى على اختفاء لبن الأطفال.
الملمح الأول يحمل دلالة مهمة ملخصها أن المواطن يراكم الأوجاع بداخله، لكنه لا ينساها، فكل وجع جديد يأخذ موضعه فى قائمة طويلة، حتى تأتى لحظة معينة يقفز فيها أمر أو حدث يدفعه إلى حساب المسئول عن القديم والجديد، تلك اللحظة التى يصح أن نصفها بـ«لحظة الانفجار». الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى تحملوا الكثير خلال السنوات الماضية، خصوصاً على المستوى الاقتصادى، وليس ببعيد عنهم أيضاً بعض الممارسات المنفلتة من عدد من رجال الشرطة، ممن يسيئون إلى زملائهم الذين يبذلون دماءهم فى مواجهة الإرهاب. الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى -بشريحتيها الدنيا والمتوسطة- هم الأكثر تأثراً بما يعترى الشارع من غلاء أو تعنت أو عنت. وقد أثبت هذا القطاع بالتجربة قدرة غير مسبوقة على استيعاب الارتفاعات المتوالية فى الأسعار، بسبب سياسات التخفف من الدعم، وانخفاض قيمة الجنيه، وترك أسواق السلع والخدمات بلا ضابط ولا رابط، والسماح للاحتكارات بالتلاعب بحاجات المواطنين دون رادع. هذا القطاع يبتلع، لكنه لا ينسى، بمقدوره أن يمتص الوجع تلو الوجع، لكنه عند مرحلة معينة بإمكانه أن يفعل الكثير، وتجربة السنوات الخمس الماضية تؤكد ذلك. هذا ما يمكن أن نستخلصه من تلك الجملة الدالة التى ترددت على لسان السيدة الباحثة عن علبة لين لرضيعها: «إحنا مش بنتكلم عن قوطة ولا بطاطس أسعارها غليت.. إحنا بنتكلم عن لبن العيال». لقد أرادت أن تقول إن ذاكرتنا لا تنسى الغلاء الجامح فى أسعار السلع كافة، والمطاردات الضرائبية للمواطن والتى توشك أن تصبح هواية لدى الحكومة، لكننا نبتلع، أما وقد وصل الأمر إلى لبن الأطفال فالمسألة تختلف، فلحظتها سنحاسب على القديم والجديد.
الملمح الثانى والمتمثل فى الصراخ فى وجه القيادات الأمنية التى حاولت احتواء الموقف يكمل رسالة السيدة، ويقول إن الوجع وصل ببعض القطاعات إلى حد الصراخ. الصراخ يعنى ببساطة الألم الشديد، وإذا تواصل الصراخ فمعنى ذلك أننا نقف أمام حالة من حالات «عدم القدرة على الاحتمال». وهو أمر خطير، ولا بد أن يؤخذ على محمل الجد من جانب السلطة. مؤكد أننا نقدّر أن السلطة تتخذ العديد من القرارات المتعلقة برفع الأسعار مضطرة، فلا يوجد سلطة فى الدنيا تريد أن تغضب شعبها، لكن من المهم أن تسعى وهى ترفع السعر إلى تحقيق أمرين: أولهما ضبط الأسواق وعدم ترك المواطن فريسة لجشع التجار الذين يبحثون هم الآخرون عن «حلوانهم» من المواطن، وأن تقف وقفة جادة فى مواجهة الاحتكارات أياً كانت جهتها أو مصدرها، ولا تترك المواطن فريسة لـ«بارونات الاحتكار».. الحذر واجب!