أعرف رجلا في اليمن حُرق داخل قصره الرئاسي، ورفض التنازل عن حُكمِ بلدٍ ميزانيته تقارب ميزانية جامعة عربية.لَفَظَه شعبُه فضربهم بالأسلحة المحرَّمة، قطع ألسنة شعرائهم، واتهمهم بالشذوذ والخَرَف.تحالف مع أعداء بلاده لضرب شعبه. وأنفق ما معه جميعًا ليعود ولو للحظة إلى سدّة الحكم!!كيف تُغيِّر المناصب الأشخاص؟! وما سرّ هذا الكرسي؟!هذه تستحقُّ دراسة موسعة..لكن خالد بن يزيد لم يكن من ذلك الصنف المأفون.. أمير بني أمية، جدُّه معاوية بن أبي سفيان، الذي جمع المتخالفين، وأسس دولة ظلت راياتها ترفرف في المشرقين، حتى منتصف القرن الثاني الهجري!
العالم الزاهد
كان خالد بن يزيد الوريث الطبيعي للحكم. مات الخليفة معاوية بن يزيد، أحد الأشراف المعدودين في التاريخ، فتمت البيعة له، غير أنه لم يكن (حسب الروايات المنقولة) عابئًا بمنصب الخلافة، في زمن كان الخليفة فيه يحكم كل شيء، ويفعل أي شيء، ولا يعبأ بأي شيء. أدى ذلك إلى تولي مروان بن الحكم الخلافة بدلا منه، وتولى خالد منصب ولي العهد، وبعد وفاة مروان (أو مقتله حسب الروايات التي تتحدث عن خنقه بوسادة من قِبَل أم معاوية بن يزيد)، اتجهت الأنظار من جديد إلى خالد بن يزيد.. الآن يتولى مُلْكَ الأرض، والتصرُّف في مال المسلمين..لم تكن تلك اهتماماته، كان يصرف جُلَّ وقته في معمله وبين كتاباته، يترجم من اليونانية، ويؤدِّي التجارِب، ويكتب المشاهدات، ويؤلِّف مساء. ولنعرف كم كان ينفق وقته في العلم والأدب، يكفينا أن نعرف أن أبياته الشعرية تملأ وحدها خمسمائة ورقة، كما حكى ابن النديم.أتكون خليفة بين يديه الزوجات وملك اليمين، وتحته أشهى الأطعمة وأطيب اللحوم، وعند كفيه تقبض الأحكام، وترتفع العقوبات، ويُهَدَّد ملوك الأرض. أم عالِمًا في محراب لا يسمع به غيرُك، ولا يعرفك فيه سوى الأضابير والمخطوطات التي تُبدِل (خاء) الخيمياء (كافًا)؟!اختار الثانية، وترك الخلافة لعبد الملك بن مروان، سار في طريق العلم، وتسنّمه.. كان له الفضل في تغيير مفهوم علم (الخيمياء) الذي يعني السحر، وصناعة الذهب، إلى الكيمياء التي هي علم العناصر وتفاعلاتها. كان شاعرًا وصاحب منطق، وبارعًا في الطب، والعلم، ومتبحرًا في الترجمة واللسانين العربي واليوناني، عرف أين عرش العلم فلزمه، وترك لهم عروش الدنيا تتناهبهم ويتناهبونها!أمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين (ممن كانوا ينزلون بمصر وأتقنوا العربية) وأَمَرَهم بنقل الكتب من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي، أشرف بنفسه على عملية النقل وأمانته، ولولا ذلك الجهد لتأخر نقل العلم والكيمياء عقودًا طويلة، وربما إلى قرون، لا سيما في عصر كان الاهتمام منصبًّا على زيادة رقعة الأرض، وحسم صراعات الحكم.وضع منظومة شعرية تحوي مبادئ علم الكيمياء، وصِفَات العناصر، وأسرار الطبيعة وسماها (فردوس الحكمة في علم الكيمياء). يقول عنها حاجي خليفة: منظومة في قوافٍ مختلفة، وعدد أبياتها: ألفان وثلاثمائة وخمسة عشر بيتًا.وكان أول من أشار إلى الزئبق الأحمر معدِّدًا فوائده الصحية والعقلية وطريقة تركيبه، فانظر إلى شرحه المبسط:هـو زيـبـق الشرق الذي هتفوا به *** فـي كتـبـهم من جُـملة الأشياءِسـمّـَوه زَهْـرًا فـي خـفي رموزهـم *** والخُرْ شُقُلا أغـمـضَ الأسـماءِفـإذا أردتَ مـثـاله فـاعـمـدْ إلــى *** جـسم الـنحاس وناره الصفراءِفامزجْهما مزج امريءٍ ذي حكمةٍ *** واحكـمْ مـزاوجـة الـهـوا بالماءِواسْحَقْ مركـَّبَك الـذي أَزْوَجْـتَـه *** بالـجـد من صُـبح إلى الإمساءِسَـحْقًا يــفــتِّـُته ويـنهك جسمه *** حتى تـراه كــزبـدةٍ بـيـضـاءِواجـمـعـه واتـقـنـه ودَعْهُ بِصِرفه *** حتى الصباح وغطـِّه بـغطاءِوينهي منظومته قائلايا أيـها الـطـالـبُ للكيميا *** لا تطلب العلمَ بغير المَيَامن عقد الماءَ الذي حلَّه *** فاز بمـا كان له راجياوترك وصية إلى ابنه في الصنعة (أي علم الكيمياء). كما ألَّف كتابًا سماه علم الحرارات، بالإضافة إلى ثلاث رسائل في الصنعة، احتوتْ إحداها على ما جرى بينه وبين مريانوس العالم القبطي الشهير. ومن كتبه كذلك (السر البديع في فك الرمز المنيع)، وكتاب (الرحمة في الكيمياء).وكان قد صنع بنفسه صناعات متعددة، فأتقن فيها؛ ففي أخبار الحكماء، لابن القفطي، أن ابن السندي شاهَدَ في خزائن الكتب بالقاهرة كرةً نحاسية، وعليها مكتوب: حُمِلَت هذه الكرة من الأمير خالد بن يزيد بن معاوية.
العلم والحب.. والزواج
مع انشغاله، واتجاهه إلى المعالي العلمية، لم ينسَ لقلبه نصيبه، أحبَّ رملة بنت الزبير، أخت عبد الله بن الزبير، الذي يطلب الخلافة من بني أمية. وكان بين الزبيريين والمروانيين صراعات وحروب عظيمة. فخطبها، وأنشد فيها الشعر وتغزَّل بها، لم يهتم بتهديدات أقاربه، ولا بحرصهم على صورته بوصفه خليفة محتملا، إلى حد اتهامه بالخيانة وببيع البلاد إلى الزبيريين، فما توانى عن حبها لحظة. أثمرت قصة حبهما زواجًا ناجحًا وأسرة هادئة. يقول فيها:إِذَا نَزَلَتْ مَاءً تَحَبَّبَ أَهْلُهُ *** إِلَيْنَا وَإِنْ كَانَتْ مُسَابَقَةً حَرْبَاوَإِنْ نَزَلَتْ مَاءً وَكَانَ قَلِيبُهَا *** مَلِيحًا وَجَدْنَا شِرْبَهُ بَارِدًا عَذْبَاراوي حديث ومُناظِروضعه علماء الحديث في الطبقة الثانية من محدثي الشام، ونقل عددًا من الأحاديث عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم).وكان مناظرًا فذًّا، قابله أحد منكري الحساب، فقال له: أمن أمَّة محمد أنت؟ قال خالد: نعم، قال: من علمائهم أو من جُهَّالهم؟ قال: لستُ من علمائهم، ولا من جُهَّالهم، قال: ألستُمْ تزعمون في كتابكم أنَّ أهل الجنة يأكلون ويشربون، ولا يبولون؟ قال: نعم، نقول ذلك، وهو كذلك، ولهذا مثل في الدنيا، قال: فما هو؟ قال خالد: مثل هذا الصبي في بطن أمه: يأتيه رزق الرحمن بكرةً وعشيًّا، لا يبول ولا يتغوَّط، فتَرَبَّدَ (تَغَيَّر) وجهه.وقال له: ألم تزعم أنك لست من علمائهم؟ قال: بلى، ما أنا من علمائهم ولا من جُهَّالهم، قال: ألستم تزعمون أنَّ أهل الجنة يأكلون ويشربون، ولا يُنتقص مما في الجنة شيء؟ قال: نقول ذلك، وهو كذلك، ولهذا مثل في الدنيا؛ مثل رجل آتاه الله علمًا وحكمةً وعلَّمه كتابه، فلو اجتمع جميع مَن خَلَق الله، فتعلَّموا منه ما نقص من علمه شيء، فترَبَّدَ وجهه.
رحم الله خالدًا
أدركته الوفاة في حمص عام 90 هجريًّا، وكان قد وهب حياته لما هو أسمى من تعقدات السياسة، وتشابكات الفتن والملاحم.. عاش كما ينبغي لعالم أن يعيش، يقرأ ويحب ويُعلِّم ويؤلف.رحمه الله!