«لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَهَ مَعَنَا».. إنه الجود الذى نهفو إليه ولن يخيب الساعى، إنه الوحى الذى نطق به المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، ما أجمل أن نستحضرها والمسلمون قد أفاضوا من عرفات.. (إِنَّ اللهَ مَعَنَا) علاج ومنهاج، إذ لا علاج للأحزان إلا أن يكون المرء فى معية الرحمن، ومنهاج حيث تحقيق السعادة للأقارب والأحباب وللمسلم ولغير المسلم، (إِنَّ اللهَ مَعَنَا) هى المفتاح لكل ما استغلق، والمخرج من كل مأزق، لذا جاءت النتيجة (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ)، والسكينة هى الروح المعنوية المرتفعة التى نقابل بها من يحاولون نشر اليأس والإحباط والفتور بيننا، والروح المعنوية أنواع، أعلاها ما يتنزل من السماء، يصنعها الإيمان واليقين وحب المخلصين.. (إِنَّ اللَهَ مَعَنَا) بعونه ولطفه وحكمته وستره ورزقه وكل شىء، وفى كل مكان.. لكن المسافات تضيق وتضيق حتى نقترب أكثر من الله، وذلك بصدق المحبة، وهو عمل راق من أعمال القلوب، وأجملْ بها لو اجتمع صدق المحبة مع القرب المكانى. هنااااااااك.. هنااااااااك حيث جبل عرفات.. حيث الطواف.. حيث التوجه إلى مقام سيد الخلق وقبته الخضراء بالمدينة المنورة.. هنااااااااك حيث طوفان من البشر يرددون:
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وكل واحد منهم ينادى مخلصاً:
إلـيــك إلــهـــى قـــد أتـيـت مُـلـَبـيــــــاً
فـبــارك إلــهـــى حـجـتـى ودعائيــا
قـصـــدتـــك مـضــطـــراً وجـئـتــك باكيـاً
وحـاشـاك ربـى أن تــرد بـكـائـيــــــا
كـفــانـى فـخــراً أنــنـــى لـك عـــابــــدٌ
فـيـا فـرحـتى إن صرت عبداً مواليـــا
إلـهــى فـأنـــت اللهُ لا شىء مـثــلــه فأفـعـــمْ فــؤادى حـكـمــة ومـعـانيــا
أتـيــت بــلا زاد، وجــودك مـطـعـــمــى وما خـاب مـن يهفو لجودك ساعيــا
نعم.. ما خـاب مـن يهفو لجودك ساعيــاً.. إنه مشهد جليل من ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللغات.. اجتماع الأمم.. لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. الموقفُ شريف، والرحمةُ تصل من حضرة الجلال إلى كافة الخلق بواسطة القلوب العزيزة، فإذا اجتمعت هممهُم، وتجردت للضراعة والابتهال قلوبُهم، وارتفعت إلى الله أيديهم، وشخصت نحو السماء أبصارهم، مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة والفضل، فلا تظنن أن الله يخيب آمالهم، لأن من أعظم الذنوب أن يحضرَ الزائرُ عرفات أو يطوفَ بالكعبة ويظن أن الله لن يغفر له، أو أن يقف بجوار مقام سيد الخلق وآل بيته مبتهلاً خاشعاً تائباً متضرعاً مصلياً عليهم، ويظن أن جنة الله ورحمته بعيدة عنه.. لذلك فليقل متضرعاً: «اللهم احرس مصر واحفظها، وأطفئ جمرة الفتنة، وشرارة الفوضى، ونار الاصطدام، ووحد كلمتَها، واشفِ المرضى، وأطعم الجائع، وفرِّج الكرب، وأما بيت الله الحرام، فهو محل نظر الله، فيه الصلاة بمائة ألف صلاة، من تعلق بأستاره فإنه مجاب الدعاء، بيتٌ النظر إليه عبادة، وليس المقصود طواف جسمك بالبيت، بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت، حتى لا تبتدئ الذكر إلا منه، ولا تختم إلا به، ألا تعلم أن الطائفين متشبهين بالملائكة المقربين، إنه استحضار لعظمة البيت فى القلب، كأنك تشاهد ربَّ البيت لشدة تعظيمه إياه، وشاء الله أن يُلحق الزائرين بزمرة الوافدين عليه، ومع أن الطواف للمسلمين لكنه يعلمك احترام الإنسان أياً كان جنسه أو دينه، ولو فهم الحاج ما فى البيت من أسرار، وما فى زيارة الرسول الكريم من أنوار، لأمتلأ قلبُه بالتواضع والرحمة والكرم، وأحب الأكوان والعمران والأوطان، واحترم الإنسان، وانفتح على العالم، فالبيت بيت المسلمين، لكن قِيمَ البيت ومُثُلَه ومقاصدَه وأخلاقياته تتسع المسلمَ وغيرَ المسلم.