ليس ثمة عالِم أوروبيّ يجهل اسم (جبير Gabir)، وهو منطوق اسم جابر بن حيان في الغرب..كان العلم قبل جابر يعتمد على الترجمة من اللاتينية، فكان هو أولَ من تُرجمت أعماله إلى اللاتينية (له أكثر من مائة كتاب منقول إلى اللاتينية، معظمها تقوم عليها صناعة الكيمياء والطب ومبادئ الفلسفة).عرفته أوروبا بعد ترجمة أول مخطوطاته عام 1273م، كان يقول فيه جابر: (آلات الحصار من المجانيق والعرادات، وهندام النفط القاذف بخص الحديد، ينبعث من خزانة أمام النار الموقود في البارود، بقوة غريبة ترد الأفعال إلى قوة باريها)، فصنع مرقس جريكوس بيانًا بهذا المسحوق، وتم اكتشاف البارود!!أعقب ذلك حمّى انتشرت في الجسد الأوروبي لترجمة جميع مخطوطات وكتابات جابر بن حيان، حتى تمت ترجمة كتاب «الاستتمام» إلى اللغة الفرنسية عام 1672، وهو عمدة كتب الكيمياء والهندسة.قال عنه كبير المستشرقين الألمان ماكس مايرهوف: يُمكن إرجاع تطور الكيمياء في أوروبا إلى جابر بن حيان بصورة مباشرة. وأكبر دليل على ذلك أن كثيرًا من المصطلحات التي ابتكرها ما زالت مُستَعْمَلة في مختلف اللغات الأوربية.إنه الرجل الذي قال عنه مؤرخ العلوم في العصر الحديث جورج سارتون: «لن نتمكن من معرفة القيمة الحقيقية لجابر بن حيان إلا إذا تم تحقيق وتحرير ونشر جميع مؤلفاته».يرى هولميارد Holmyard أن جابر لم يعش أقل من 95 سنة، ودليله في ذلك أن المؤلفات التي ألّفها لا يمكن إنجازها بأقل من هذا الزمن.
من هو؟!
إنه جابر بن حيان بن عبد الله الأزدي، عالم الكيمياء الأستاذ الطبيب والفيلسوف الذي جاء في عصر لا يعرف التقسيم بين العلوم، وُلِد في بداية القرن الثاني الهجري عام 101هـ في خراسان، استقر والده بالكوفة وعمل فيها عطارًا، ثم ما لبث أن نشط سياسيًّا، فنادى بخلافة بني العباس. وكان ذلك سببًا في اغتياله، في أوج الخلاف بين الأمويين والعباسيين، انتقل بعد ذلك جابر (اليتيم) إلى الجزيرة العربية، وهو لم يرث من والده إلا حب الكيمياء والافتتان بالسياسة، فدرس هناك القرآن الكريم والرياضيات عند رجل يقال له: حرب الحميري.
خدعة العناصر الأربعة
كانت ثورته العلمية الحقيقية حين عمل على عناصر أربعة كانت تشغل أذهان معاصريه، وهي الذهب والفضة والنحاس والحديد، حيث كان علماء عصره يظنون أنها عناصر تنتمي لسلسة واحدة، وأنه يمكن تحويل كل منها إلى الآخر، ومن هنا كان النظر إلى (الخيمياء) بوصفها من السحر وأعمال الشياطين. استطاع جابر بن حيان تحويل هذه المعادن إلى الذهب بطريقة تبيِّن إلى أي مدى كان حس الفكاهة عنده عاليًا؛ فقد لبَّس المعدن طبقة رقيقة من الذهب. وفي أثناء أبحاثه على العناصر الأربعة توصل إلى أعظم إنجازات عصره، حيث اكتشف منهجًا علميًّا تجريبيًّا عظيمًا، وتعرف على عدد كبير من المواد والتفاعلات والعمليات الكيميائية، منها التقطير، والتسامي، والترشيح، والتبلور، والملغمة، والتكسيد، التي أصبحت مقومات الكيمياء الحديثة.كما أنه اكتشف القلويات المعروفة حتى الآن في الغرب باسمها العربي (Alkali).ولابن حيان الفضل في تعريف علماء أوروبا بملح النشادر وماء الذهب والفضة والبوتاس، ومن إسهاماته أيضًا تكرير المعادن وتحضير الفولاذ وصبغ الأقمشة ودبغ الجلود، وطلاء الأقمشة المانعة للتسرب، واستخدام ثاني أكسيد المنغنيز في صنع الزجاج. بالإضافة إلى العديد الاكتشافات والابتكارات، ومنها: اكتشاف الصودا الكاوية، والتوصل لطريقة فصل الذهب عن الفضة بواسطة الأحماض، وهي مستخدمة إلى يومنا هذا!
علم التسمم
أُصيبت جارية أحد أصدقائه الوزراء بمرض خبيث لم يجدوا له علاج، فحين كشف جابر على الجارية عرف أنها تسمَّمَتْ، وكان قد جمع كل مسببات السمِّ في عصره وكيفية الوقاية منها في كتاب اسمه «السموم ودفع مضارها»، وقد اطلعت على شيء من هذا في دائرة المعارف البريطانية، المهم أنه وصف العلاج الناجع للجارية، وشُفيت من مرضها.ذكر المؤرخ المعروف خير الدين الزركلي أن مؤلفات ابن حيان تزيد عن 3000 كتاب، ضاع أكثرها وترجم بعضها إلى اللغة اللاتينية أوائل القرن الـ12 ثم ترجمت مرة أخرى من اللاتينية إلى الإنجليزية عام 1678م. وله من الكتب كذلك: الخواص، وأسرار الكيمياء، وأصول الكيمياء، وعلم الهيئة، والمكتسب، والخمائر الصغيرة، وصندوق الحكمة، وكتاب الملك.
مكتشف الطاقة النووية وتركيب الذرة
كان أول من اكتشف الطاقة النووية، والأساس الذي صُنعت به القنابل النووية، حيث قال بالنص: «في قلب كل ذرة قوةُ لو أمكن تحريرها لأحرقت بغداد». ومن المعروف أن الطاقة المنبعثة من أي ذرة تساوي كتلةَ الذرَّةِ مضروبة في مُربَّع سرعة الضوء، مما يولِّد طاقة قادرة بالفعل على تدمير مدينة كاملة، وقد تم فعل ذلك في مدينتي هيروشيما وناجازاكي على التوالي، بعد ابن حيان باثني عشر قرنًا!!وإذا رجعنا إلى رسائل جابر، نجده يذكر معلومات سَبَقَتْ عصره بقرون، من ذلك تلك الفكرة الهائلة التي أيدتها التجارب اليوم، من أن (الجوهر البسيط يشبه العالم الشمسي)، أي أن تركيب الذرة يشبه تركيب النظام الشمسي؛ نواة (شمس) وإلكترونات حولها في مدارات (كواكب في مدارات).تمكن من صنع ورق غير قابل للاحتراق ولا يعرف العلم الحديث حتى الآن هذا النوع من الورق رغم جزمهم بصنع جابر له.
رائد العلم التجريبي.. المتصوف
العلم عند جابر يسبق العمل، فليس لأحد أن يعمل ويجرب دون أن يعلم أصول الصنعة ومجالات العلم بصورة كاملة وقد قال: «إن كل صنعة لا بد لها من سبوق العلم في طلبها للعمل».قطع جابر كأحد رواد علماء العرب خطوة أبعد مما قطع اليونان في وضع التجربة أساس العمل لا اعتمادًا على التأمُّلِ الساكن، ولعله أسبق عالم عربي في هذا المضمار، فنراه يقول: (وملاك هذه الصنعة العمل، فمن لم يعمل ولم يجرب لم يظفر بشيء أبدًا).ألَّفَ جابر عددًا كبيرًا جدًّا من الكتب، يقال إنها تجاوزت 3900 كتاب. كان متصوِّفًا أيام التصوف الخالي من الشطحات الفكرية، الذي كان يعني الانقطاع للزهد والتفرُّغ للعبادة. ذكر هولميارد أن الصنعة الخاصة عند جابر، هي أنه على الرغم من توجهه نحو التصوف، فقد عرف وأكَّد على أهمية التجريب بشكل أوضح من كل من سبقه من الخيميائيين.
السياسة يتبعها الموت!
كان لابن حيان رأيٌ في خلافة هارون الرشيد وارتبطَ اسمها بحادثة مشهورة هي (نكبة البرامكة) قضى فيها هارون الرشيد على كل عائلة وزيره يحيى البرمكي، ومعارفهم، وأهلهم، ومن ضمن هؤلاء المعارف كان جابر بن حيان، فجاء اسمه ضمن الموالين للبرامكة، هرب إلى الكوفة واختبأ، وكان في التسعين من عمره.. تصوَّروا أنه في ظل هذه الأحداث لم ينقطع عن تجاربه العلمية، فلاحظ أن الطوب الأحمر يفرز أملاحًا بيضاء، فعرف أنه يتفاعل كيميائيًّا، وقبل أن يتناول هذه المسألة أُلقي عليه القبض، ودخل سجن الكوفة ومات فيه عام 199هــ، بعدما وضع منهجًا علميًّا لا يمكن لعالم كيميائي إلا أن يتخذه سلاحًا له في رحلته العلمية. رحم الله جابرًا!