أبسط جهاز حاسوب يمكن أن تصنعه بنفسك هو الدائرة الكهربية البسيطة: مصدر طاقة (بطارية مثلًا)، وسلك متصل بمصباح كهربي، مع مفتاح لقطع التيار أو لإيصاله. يمكنك الآن أن تطرح على الحاسوب سؤالًا: هل هناك تيار متصل يمر الآن؟! ستكون إضاءة المصباح هي الإجابة بـ(نعم)، وإظلامه الإجابة بـ(لا).. هذان المتغيران، (نعم) و(لا)، هما المفهومان الوحيدان اللذان يستوعبهما أي جهاز حاسوب مهما بلغت درجة تعقيده..!!نرمز لـ(نعم) بـ(0) ولـ(لا) بـ(1)، ومجموع تكرار الـ(0)، والـ(1) هو ما يكوِّن الأوامر المعقدة التي يستقبلها أي حاسوب.. لذلك تسمى لغة الحاسوب بـ(01).فلنتصور أن الأبجدية المتاحة للحاسوب هي حرفان فقط (0) و(1)، وأن منهما يمكن تكوين الكلمات التي يفهمها الجهاز (عن طريق ما يسمى Compiler أي مفسِّر يحوِّل أي شيء تريد أن تقوله إلى 0 و1)، فبِناءً عليه، يفهم الحاسوب الكلمات المدخلة إليه، ويحوِّلها إلى قيم فعلية مادِّيَّة.إذا أردت أن تقول للحاسوب: (إذا حدث كذا فافعل كذا)، فإن كلمة (إذا) في بداية الجملة تحتاج إلى 15 حرفًا، هي: 0111 000 0001 1010، هكذا يفهم الحاسوب أن هناك كلمة (إذا) عليه أن يفهمها.من هذين الحرفين تتكون شيفرات الحاسوب من برمجة الألعاب والتحكّم في الآلات العملاقة، إلى حل المعضلات الرياضية والتخطيط الاقتصادي وصناعة المستقبل. هكذا يتكون الحاسوب.
تركيب الإنسان:
في عام 1953 كان جيمس واطسون وفرانسيس كريك في إحدى الحانات في مدينة كمبردج، وبعد نقاش حماسي صرخا في وقت واحد: (اكتشفنا شيفرة الحياة)..! كانا قد توصلا إلى الشيفرة الوراثية المطبوعة على الدي إن إيه (DNA) في داخل كل خلية، وهي اختصار لـ(دي أوكسي ريبونو كليك DEOXYRBOUNCLEIC)، هذا الشريط الوراثي الحلزوني يحتوي على عدة درجات، في كل درجة زوج قاعدي عبارة عن كتلتين بنائيتين تسميان النيكلوتيدات، مطبوع على كل درجة مجموعة أوامر مكونة من أربعة أحرف هي: A وC وG و T (اختصار لأسماء النيكلوتيدات التي هي الأدينين والسيتوسين والجوانين والسيمين).تتكون من هذه الأحرف الأربعة جميع الكلمات التي يفهمها الجسد فيحولها إلى مظاهر شكلية وصفات جسدية وإمكانات عقلية، تصف الإنسان من طول وقصر ولون شعر ولون عينين وقابلية للأمراض. إنها الخريطة التي يترجمها الجسم ويبني بها إمكاناته الجسدية - النفسية - العقلية - التواصلية.لكل شخص مجموعة من الدرجات على خيط DNA تصل إلى 3 مليارات درجة.. يمكن أن نقرأها جميعًا على هيئة شريط مكون من ثلاثة حروف في كل كلمة (هناك أربعة أحرف كما أسلفنا، يتم اختيار ثلاثة منها كل في كل كلمة)، فمثلا إذا جمعنا الأحرف الثلاثة (GSA) فإننا نصل إلى الكود الخاص بحمض أميني يعرف باسم الألانين، ويُكَوِّن التسلسل المعروف باسم (TGT) حمضًا أمينيًّا آخر هو السيستين، وهكذا بجمع الأحماض الأمينية معًا نستطيع بناء الخلايا!العجيب في الأمر أن DNA (الدنا اختصارًا) يستطيع نسخ نفسه في كل خلية؛ فكل خلية مصنع، والإرشادات يجب أن تكون في كل المصانع معًا، فكل مصنع (خلية) مستقل يأخذ نسخة من الشريط الوراثي، يكون هذا الشريط مغلفًا فيما يسمى الكروموسوم!
قصة الكروموسوم:
ببساطة كمية (الدنا) كبيرة للغاية إلى درجة أنها يجب أن تكون مغلفة على هيئة حرف (×) تعرف باسم الكروموسوم (مثل تغليف الهدايا لتقليل حجمها)، لو لم يحدث ذلك لكان طول شريط الدنا للخلية الواحدة يصل إلى متر ونصف المتر.البشر يتوزعون إلى 46 كروموسومًا يرثها الطفل بالتناصف بين الأب (23) والأم (23)، وعن طريق نوع الكروموسوم (الكروموسومات حسب طبيعتها تنقسم إلى نوعين؛x وy) يتم تحديد نوع الجنين، أما إذا تخلخل عدد الكروموسومات أو حدث اضطراب ما، فإن تشوهًا جينيًّا يحدث، فنسخ الكروموسوم رقم 21 مرتين، يعني ولادة طفل منغولي. ورغم أن لكل شخص تسلسلًا من (الدنا) يختلف عن أي شخص آخر، ولا يتشابه إلا في نقاط محدودة تختص بالعائلة والأصل العرقي.. إلخ، فإن هناك حالات تطابق بين التوائم. ببساطة إذا أخذَتْ الخلايا أوامر ببناء نفس (الدنا)، فإن النتيجة ستكون نفس الشخص، لدرجة أن بصمات الأصابع تتطابق بين هذين التوأمين المتماثلين!!وحسب التقديرات، فإن الجينات تتشابه بين الإنسان والشمبانزي بنسبة 95 في المائة (لم يأتِ أحدهما من الآخر على الإطلاق)، وتصل نسبة التشابه بين الإنسان والعنب إلى 25 في المائة.
أيهما أكثر تعقيدًا إذًا؟!
يمكننا أن نقول إنه بينما يستخدم الحاسوب حرفين فقط في تحويل الأوامر الكتابية إلى قيم مادية، فإن (الدنا) لدى البشر تتكون بواسطة أربعة أحرف رئيسية، أي أن الإنسان سيظل أعقد في تركيبه وفي صفاته وتفكيره من أي جهاز حاسوب قد يُخترع مستقبلًا، ليس بنسبة الضعف كما قد يتبادر للبعض (ما دامت أحرف أربعة تكوِّن الشريط الوراثي، وأن اثنين فقط يكونان شيفرة الحاسوب)، بل إن التضاعف ينتمي إلى متوالية هندسية (كالفرق مثلا بين الأصوات الممكن إنتاجها بواسطة مفتاحين في البيانو، والسيمفونيات التي يمكن إنتاجها بأربعة مفاتيح.. سيكون العدد أضعافًا مضاعفة، أو كالفرق بين عدد يحتوي على صفرين، وآخر يحتوي على أربعة أصفار، سيكون مائة ضعف على الأقل)، هذا هو أبسط فارق بين الإنسان (فقط في تكوينه وإشاراته العقلية وردود فعله)، وأعظم حاسوب قد يُخترع يومًا ما..! (ماشي)؟!