لكل حاكم سلبياته وإيجابياته. جمال عبدالناصر كان كذلك، كثيرون كانوا يرددون أن «عبدالناصر» خلافاً لغيره من حكام مصر، امتاز بإيجابيات كبرى وسلبيات كبرى، ربما كان الرجل كذلك، لكن يبقى أنه يشكل منذ وفاته (سبتمبر 1970) جزءاً من ذاكرة المصريين، حتى الأجيال التى لم تعاصره تهتف باسمه، ربما تلاحظ أن شباباً -وُلدوا بعد رحيله بعقود- يحملون صوره فى مظاهراتهم. هذا الأمر مثلاً لم يحدث مع الرئيس الراحل أنور السادات، صاحب قرار العبور والقائد المنتصر على إسرائيل، الذى تمكن من استرداد الأرض السليبة.. لماذا استطاع «عبدالناصر» وحده أن يرسخ فى الذاكرة الجمعية للمصريين طيلة العقود الماضية؟. دعنا نُجيب.
«عبدالناصر» الزعيم الوحيد الذى أعطى المصريين أشياء فى أيديهم، لا يزال البعض ينعم بها حتى الآن. أعطى الفلاح أرضاً، بعد إصدار قانون الإصلاح الزراعى، وأعطى الفقير تعليماً، وسكناً، ووحدة صحية، قُل ما شئت عن مستوى التعليم والصحة والسكن وخلافه، لكن الأمر لم يكن كذلك فى عصر «عبدالناصر»، أو حتى خلال العقد الذى تلا رحيله، فقد تعرضت البلاد فى عصر «مبارك» لتجريف ونحر متواصل أصاب تعليمها وثقافتها وصحتها عبر العقود الماضية. أعطى «ناصر» العمال حقوقاً، بعد سنين طويلة من المهانة من جانب أصحاب الأعمال. بطاقة التموين هى اختراع ناصرى، لا يزال البعض يتعيش عليه حتى اليوم، ذلك هو الفارق الجوهرى بين «عبدالناصر» وغيره من الحكام، «ناصر» أعطى الناس مكتسبات ملموسة فى أيديها، وبدأت هذه المكتسبات تتسلل منها شيئاً فشيئاً بعد وفاته.
قد يقول قائل إن «عبدالناصر» كان يفعل ذلك من أجل بناء شعبية وزعامة.. والسؤال: ما المانع فى ذلك؟ فشعبية أى رئيس تستند إلى ما يعطيه لشعبه، وليس ما يأخذه منه، عندما كان «عبدالناصر» يأخذ كان يمد يده فى جيوب الأغنياء الذين أثروا من خير هذا البلد وعرق عمالها وفلاحيها، وتوانوا بعد ذلك عن مد أيديهم للناس، ولم يروا فيهم أكثر من فرق لمد اليد لطلب الزكاة أو الصدقات. نعم استطاع «عبدالناصر» أن يخلق شعبيته بسياساته وقراراته. وهل بإمكان الحاكم أن يستند إلى شىء فى بناء شعبيته غير سياساته وقراراته؟!. كان لـ«عبدالناصر» سلبيات عديدة وقرارات غير موفقة فى بعض الأحوال، لكن الناس ظلت تغفر له، وتتمسك به، حتى فى أحلك اللحظات التى يصعب على أى مصرى التمسك فيها بحاكم، حين خاض حرباً وخسر فيها خسارة مريرة، كما حدث بعد نكسة يونيو 1967. حدث ذلك فى الوقت الذى خرج فيه الناس ضد «السادات» فى مظاهرات يناير 1977، بعد 4 سنوات من نصر أكتوبر المجيد، لا لشىء إلا لأنه أخذ يمد يده فى جيوبهم، حتى يحصل على قرض دولى ينتعش معه اقتصاد القطط السمان. ولم تكن صورة جمال عبدالناصر غائبة عن هذه المظاهرات. المثير أن صورة الرجل كانت حاضرة أيضاً فى آخر انتخابات رئاسية (2014)، حين ربط كل مرشح من المرشحين للرئاسة بين صورته وتوجهاته وصورة وتوجهات «عبدالناصر»، وكأن «عبدالناصر» أصبح الرهان الوحيد لكل من يريد أن يكسب هذا الشعب.. فليرحمه الله تعالى.